انقلاب الموازين الأسباب والعلاج
من مظاهرِ اختلالِ الموازيين في العالم اليوم، ما نراه من الدعوة لإباحةِ الشذوذ وتزيين الإباحية وشرعنةِ الإلحاد، بدعوى الحرية الشخصية، ومسايرة السياسات الأممية...
معاشر المؤمنين؛ خلق الله تعالى الكون بميزان العدل والحق، قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 - 9]، والميزان هو العدل والحق الذي تنضبط به الحياةُ، فإذا اختلَّ الميزان اختلَّ نظامُ الحياة، وإن أخطر ما يصيب البشرية، ويتسبَّب في الضلال والغواية، ويدفع للظلم والطغيان - هو انقلاب الموازيين، ولنتأمَّل ما ذكره القرآنُ عن مآل من انقلبت موازينهُم فضلُّوا وأضلوا؛ قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67].
وإن أخطرَ انقلابٍ للموازين - عباد الله - ما كان في العقيدة والإيمان، فيُرى الإيمانُ عندها ضلالة، والشركُ هدايةً، والإصلاحُ غواية، عندها لا تجد الهدايةُ للقلوب مسلكًا، ولا يجد الإيمان لها طريقًا؛ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء: 168].
وتدبَّروا كيف أراد رمزُ الطغيان البشري فرعون أن يضلِّل قومَه ويَقلِبَ الحقائقَ والموازينَ للملأ حوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]، فقال تعالى عنهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54].
معاشر المؤمنين؛ ومن مظاهرِ اختلالِ الموازيين في العالم اليوم، ما نراه من الدعوة لإباحةِ الشذوذ وتزيين الإباحية وشرعنةِ الإلحاد، بدعوى الحرية الشخصية، ومسايرة السياسات الأممية، وهم بهذه الدعوى كقوم لوط حين استنكروا على لوطٍ عليه السلام إنكاره عليهم الفاحشة، فقالوا: كما حكى لنا القرآن الكريم: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]، فأصبحت الطهارة والعفة لديهم رجعية وتزمتًا، كما هي اليوم لدى الغرب وأتباعهم.
وكما حكى القرآن عن أهل النفاق: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12].
ومن مظاهرِ اختلالِ الموازين لدى بعضَ المسلمين الاختلالُ في فقه الدين وفهم أحكامه ومقاصده وأولوياته، وعدم فَهْمه بشموله وكماله، كمن يقول: لا علاقة للدين بواقع الحياة وتنظيم شؤون الأمة، وقضاياها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أو ذاك الذي يغالي ويتطرَّف في فَهْم الدين، أو غيره الذي يُفرِّطُ ويتسيَّب في التزام أحكام الشرع وحدوده، أو ذاك الذي يتلبَّس بلبوس العلم والدعوة، ثم هو سيفٌ مسلطٌ على أهلِ الدعوة والإيمان ولسانٌ رحيم على أهل الضلال والكفران، ومنهم ذاك الذي يفهم الدين عباداتٍ فردية لنيل الثواب فقط، أما حقوق الناس وأعراضهم وذِمَمهم، فلا يلتفت لها، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أتَدرونَ ما المُفلِسُ؟ إن المُفلسَ من أُمتي مَن يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ، وزكاةٍ، ويأتي وقد شتَم هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيُعْطَى هذا من حَسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حَسناتُه قبلَ أن يُقضَى ما عليهِ، أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحَتْ عليهِ، ثم طُرِحَ في النارِ»؛ (صحيح الجامع).
معاشر المؤمنين؛ ومن مظاهر انقلابِ الموازينِ، التخبُّطُ في الحكمِ على الناس، بالتعجل والحكمِ بالظاهر وبالإشاعات وعدمِ التثبت، أو بسوءِ الظن وغلبةِ الأحقاد والضغائن على موازين الحق والعدالة، وقد يتسبَّبَ ذلك في توسيدِ الأمر لغير أهله، ووصفِ البعض بغير ما يستحق من أوصاف التزكية والشهادة، قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن فلانًا رجلُ صدق، قال: سافرت معه؟ قال: لا، قال: فكانت بينك وبينه خصومة؟ قال لا، قال: فهل ائتمنته على شيء؟ قال لا، قال: فأنت الذي لا علم لك به، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد!
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدق فيها الكاذب، ويُكذب فيها الصادق، ويُخوَّن فيها الأمين، ويُؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة» ، قالوا: مَن الرويبضة يا رسول الله؟ قال: «التافه يتكلم في أمر العامة»؛ (رواه أصحاب السنن)
معاشر المؤمنين: كيف ينالُ المرءُ الموازينَ الصحيحة وينجو من اختلالها لديه؟ نقول وبالله التوفيق: إنما ينالها بتدبُّر كتاب الله، والاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14].
وقال صلى الله عليه وسلم: «تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به، فلن تَضِلُّوا أبدًا، كتابَ اللهِ، وسُنَّةَ نبيِّه»؛ (صححه الألباني).
ولا يكون ذلك إلا بالعلم النافع يتلقاه المرءُ من العلماء العاملين، ومن أهل الاختصاص والعلم؛ قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
كما ينالُ المرءُ صوابَ الموازين بتحرِّي الحقائق، والتثبتِ منها، وعدمِ الانخداع بما يُثار، ولا سيما في ظل وسائل التواصل الحديثة التي يكثر فيها الغث والدعاوى الكاذبة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94].
تلكم هي عباد الله وسائل تحقيق العدل في وزن الأمور، ومعرفة الحقيقة والحق، وصدق الله تعالى إذ يقول: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].
_______________________________________________________
الكاتب: يحيى سليمان العقيلي
- التصنيف: