درجات الرضا بالله تعالى
إنَّ العبد إذا علم أنَّه لن يُصيبَه إلا ما كتبَ الله له مِنْ خير وشرٍّ، ونفعٍ وضرٍّ، وأنَّ اجتهادَ الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غيرُ مفيد البتة، علم حينئذٍ أنَّ الله وحده هو الضَّارُّ النَّافعُ، المعطي المانع، فأوجبَ ذلك للعبدِ توحيدَ ربِّه عز وجل، وإفرادَه بالطاعة
- التصنيفات: التوحيد وأنواعه - - آفاق الشريعة -
الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن؛ خلق الإنسان علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنزل الْقُرْآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله سيد ولد عدنان، صلى عليه الله وملائكته والمؤمنون وعلى آله وأزواجه وجميع أصحابه ومن تبعهم بإحسان أما بعد؛ فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بدينه، واعلموا أن للإيمان مراتب وشعب ودرجات، فعلى قدر إيمانك وعملك تكون رتبتك عند ربك تعالى
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ لكلِّ شيء حقيقةً، وما بلغ عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتى يعلمَ أنَّ ما أصابه لم يكُنْ ليخطئَهُ، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبَه» [1]
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: إنَّ العبد إذا علم أنَّه لن يُصيبَه إلا ما كتبَ الله له مِنْ خير وشرٍّ، ونفعٍ وضرٍّ، وأنَّ اجتهادَ الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غيرُ مفيد البتة، علم حينئذٍ أنَّ الله وحده هو الضَّارُّ النَّافعُ، المعطي المانع، فأوجبَ ذلك للعبدِ توحيدَ ربِّه عز وجل، وإفرادَه بالطاعة، وحفظَ حدوده، فإنَّ المعبود إنَّما يُقصد بعبادته جلبَ المنافع ودفع المضار، ولهذا ذمَّ الله من يعبدُ من لا ينفعُ ولا يضرُّ، ولا يُغني عن عابدِهِ شيئًا، فمن علم أنَّه لا ينفعُ ولا يضرُّ، ولا يُعطي ولا يمنعُ غيرُ الله، أوجبَ له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرُّع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعةِ الخلق جميعًا، وأنْ يتّقي سخطه، ولو كان فيه سخطُ الخلق جميعًا، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرَّخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عندَ الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء من يرجون نفعَه مِنْ دُونِه، قال الله عز وجل: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38]
وقوله صلى الله عليه وسلم: «واعلم أنَّ في الصَّبر على ما تكره خيراً كثيرًا»، يعني: أنَّ ما أصاب العبدَ مِنَ المصائب المؤلمةِ المكتوبة عليه إذا صبر عليها، كان له في الصبر خيرٌ كثير وفي رواية: فإنِ استطعتَ أنْ تعمل لله بالرِّضا في اليقين فافعل، وإنْ لم تستطع، فإنَّ في الصَّبر على ما تكره خيرًا كثيرًا[2]، ومعنى هذا أنَّ حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يُعين العبد على أنْ ترضى نفسُه بما أصابه، فمن استطاع أنْ يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرّضا بالمقدور فليفعل، فإنْ لم يستطع الرِّضا، فإنَّ في الصَّبر على المكروه خيرًا كثيرًا فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب:
إحداهما: أنْ يرضى بذلك، وهذه درجةٌ عاليةٌ رفيعة جدًّا، قال الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] قال علقمة: هي المصيبة تصيبُ الرَّجلَ، فيعلم أنَّها من عند الله، فيسلِّمُ لها ويرضى
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عِظم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السّخط» [3]، وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «أسأَلكَ الرِّضا بعد القضاء» [4]
وممَّا يدعو المؤمن إلى الرِّضا بالقضاء تحقيقُ إيمانه بمعنى قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له؛ إنْ أصابته سرَّاءُ شكر كان خيرًا له، وإنْ أصابته ضرَّاءُ صبر كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن» [5]، وجاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فسأله أنْ يُوصيه وصيَّةً جامعةً موجَزةً، فقال: «لا تتَّهم الله في قضائه» [6]
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنَّ الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أنْ يُرضى به، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنَّ الله بقسطه وعدله جعلَ الرَّوحَ والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحزن في الشكِّ والسخط، كذا رُوِيَ عَنْ عمر وابنِ مسعود وغيرهما[7]، وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر فمن وصل إلى هذه الدرجة، كان عيشُه كلُّه في نعيمٍ وسرورٍ، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] قال بعض السَّلف: الحياة الطيبة: هي الرضا والقناعة[8]، وقال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم، وجنّة الدنيا، ومُستراح العابدين[9]
وأهل الرضا تارةً يلاحظون حكمة المُبتَلِي وخيرته لعبده في البلاء، وأنَّه غير متَّهم في قضائه، وتارةً يُلاحظون ثوابَ الرِّضا بالقضاء، فيُنسيهم ألم المقتضي به، وتارةً يُلاحظون عظمةَ المُبتَلِي وجلالَه وكمالَه، حتى ربَّما تلذَّذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم، كما قال بعضهم: أوجدهم في عذابه عُذوبة وسئل بعضُ التابعينَ عن حاله في مرضه، فقال: أحبُّه إليه أحبُّه إليَّ[10]
والدرجة الثانية: أنْ يصبرَ على البلاء، وهذه لمن لم يستطع الرِّضا بالقضاء، فالرِّضا فضلٌ مندوبٌ إليه مستحب، والصبرُ واجبٌ على المؤمن حتمٌ، وفي الصَّبر خيرٌ كثيرٌ، فإنَّ الله أمرَ به، ووعدَ عليه جزيلَ الأجر قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 156، 157] قال الحسن: الرِّضا عزيزٌ، ولكن الصبر معوَّلُ المؤمن[11]
ثم تأمل - رحمني الله وإياك- عاقبة تسخّط نعم الله تعالى في قصة سبأ، ذلك أنهم كانوا في نعيم رغيد وأمن سابلة وتقارب بلاد وإدرار أرزاق وعيشة رخيّة؛ فبدّلوا رضاهم سخطًا وشكرهم كفرًا؛ فأبدل الله حالهم، وقلب عليهم زمانهم، وجزاهم بكفر نعمته عذابًا، قال تبارك وتعالى: {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (15 فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل (16 ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين (18 فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} والله المسؤول أن يعصمنا من مضلات الفتن ومصارع السوء وخواتيم الهلاك، إله الحق آمين
وَلَرُبَّ نعمة في ثوب محنة، وكم من كرامة في شكل بلاء، ولطفٍ خفيٍّ عن الناظرين، ولكن أين الموفقون المُبصرون بنور قلوبهم مواطن قطرِ النِّعم!
ومن أنواع الرضا: الرضا بدينه الذي شرعه وأنزله ورضيه طريقة للتعبد به إليه، ويتبع ذلك الرضا بمشقّات الطاعات ومرارات اجتناب المحرمات المشتهاة، حتى تترقّى النفس للرضا التام والتّلذّذ الوافر بذلك، لوصول النفس حينها لدرجة النفس المطمئنة
ومن أنواعه: الرضا بالمقادير الكونية المؤلمة، فمنها السهل المتيسّر، ومنها الصعب الشديد المُمِضُّ وهكذا وكلها جارية على العبد لا محالة، ومن تائية ابن تيمية رحمه الله:
فما شاء مولانا الإلهُ فإنِّـــــــه ** يكون، وما لا، لا يكون بحيلة
عباد الرحمن؛ إن للرضا درجات: منها الرضا بالله ربًّا وتسخُّطُ عبادةِ ما دون الله، وهذا قطب رحا الإسلام لا بد منه، أن ترضى بالله ولا ترضى بأي إلهٍ آخر، فلم يتخذ غير الله ربًّا يسكن إليه في تدبيره، وينزل به حوائجه وهذا محرومٌ منه عبّاد القبور، فيُنزلون حوائجهم بالأولياء والأقطاب، ويسألونهم ويستغيثون بهم ويتوكّلون عليهم ويرجون منهم ما لا يقدر عليه إلا الله!
لو آمنوا بالله حقًّا لطلبوا المدد من الله ولم يذهبوا إلى المخلوقين في قبورهم، فيقولون: يا فلان المدد، يا فلان أغثنا! {قل أغير الله أبغي رباً وهو ربُّ كل شيءٍ}، قال ابن عباس: يعني سيّدًا وإلهًا، فكيف أطلب ربًّا غيره وهو ربُّ كل شيءٍ؟! {قل أ غير الله أتخذ ولياً فاطرِ السماوات و الأرض}، وليًّا من الموالاة التي تتضمّن الحب والطاعة، يعني: أغير الله أتخذ معبودًا وناصرًا ومُعينًا وملجأً؟! {أفغير الله أبتغي حكماً و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً}، هل أرضى بحَكَمٍ آخر يحكم بيني وبينكم غير الله بكتابه وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم؟! فإذا رضيت بالله ربًّا يجب أن ترضى به حَكَمًا، {إنِ الحُكْمُ إلا لله}، ومن خصائصه سبحانه أن التحكيم والحُكْمَ له سبحانه وحده
ثم إذا تأملتَ هذه الأمور عرفتَ أن كثيرًا من الناس يدّعون الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ نبيًّا، ثم هنا يخالفون حكم الله ويرضون بحكم غيره، ويخالفون السنّة، وهناك يميلون ويوالون أصحاب دياناتٍ أخرى، فأين هم من هذه الثلاثة؟! والقرآن مليءٌ بوصف المشركين أنهم اتخذوا من دون الله أولياء، فإنّ من تمام الإيمان صحة الموالاة ومدار الإسلام على أن يرضى العبد بعبادة الله وحده ويسخط عبادة غيره
اللهم نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار
اللهم صل على محمد
[1] أحمد (6/ 441) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2150)
[2] أحمد (2803) وصححه محققوه وصححه الألباني في السلسلة (1076)
[3] البخاري 7/ 109 (5470)، ومسلم 6/ 174 (2144 (23)
[4] ابن أبي شيبة (2946 وابن أبي عاصم في السنة (128 (378 والبزار في البحر الزخار (1392) والطبراني في الدعاء (625 والحاكم (1/ 524-525)وصححه الحويني في الفتاوى (1/ 262
[5] مسلم (2999)
[6] خلق أفعال العباد (163)، والجهاد لابن أبي عاصم (25) وضعفه محقق جامع العلوم وبنحوه عند أحمد (5/ 318) بسند صححه ابن كثير في جامع المسانيد والسنن.
[7] شعب الإيمان (207) عن أبي سعيد الخدري به، وزاد في أوله: إن من ضعف اليقين أن تُرضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله.
[8] أُثرت عن علي رضي الله عنه، كما عند الطبري في تفسيره (16526 كذلك رواهما عن ابن عباس والحسن
[9] الحلية (6/ 156).
[10] وهي كلمة شريفة قالها الصحابي عمران بن حصين رضي الله عنهما لمّا سأله التابعي الجليل مطرف بن عبد الله عن حاله في مرضه وانظر الطبراني في الكبير (18/ 193
[11] جامع العلوم والحكم (1 / 191- 195) مختصرًا.
___________________________________________________
الكاتب: إبراهيم الدميجي