نعمة الوطن
إن الله تعالى خلق الإنسان مفطورًا على حب وطنه والأُنس به، فهو راحة قلبه وطمأنينة نفسه، وموئل الأحبة والخلَّان والأمان والذكريات، وحب الوطن شعور تخفق له القلوب، وشوق تتحدث به الأفئدة، وحنين يكمن في الوجدان...
إن الله تعالى خلق الإنسان مفطورًا على حب وطنه والأُنس به، فهو راحة قلبه وطمأنينة نفسه، وموئل الأحبة والخلَّان والأمان والذكريات، وحب الوطن شعور تخفق له القلوب، وشوق تتحدث به الأفئدة، وحنين يكمن في الوجدان، ومودة وألفة تتزيَّن بها كِرام النفوس وأهل المروءات والشيم.
إن حب الأوطان خالط مشاعر الأنبياء، ووجد في قلوب الصحابة والأصفياء، ومن أعجب العجب أن حبَّ الأوطان تغلغل في دواخل الحيتان تحت الماء، ورفرفت له أجنحة الطير في السماء.
وقد ربط القرآن بين حب الوطن وبين حب النفس؛ كما في قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، وفي القرآن ربط بين الدين والوطن: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 8].
والنبي صلى الله عليه وسلم ابتلاه الله بترك وطنه، فوقف يخاطب مكة شرفها الله؛ قائلًا: «والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت».
ويواسي المولى تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13].
إنها نعمة هذا البلد الأمين الذي أقسم الله تعالى به فقال: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3]، وسماه أمينًا؛ لأنه آمن؛ كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67].
ومن شكر الله على نعمة الوطن تحقيق عقيدة المسلم في الولاء له، ومحبته، وبذل الغالي والنفيس دونه، فقد كان حب مكة والمدينة في سويداء قلب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة، كحبنا مكةَ أو أشد»؛ (رواه البخاري).
ومن لوازم هذه العقيدة الدفاع عنها؛ لأنها بيضة الإسلام، وحوزة المسلمين، وقبلتهم، ومهوى أفئدتهم، أمنُها أمنُ المسلمين، واستقرارها استقرار العالمين: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97].
إن الوطن الآمن المستقر نعمة ومِنَّة من الله تعالى، تتطلب شكرًا وعرفانًا، تترجمه الأقوال والأفعال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4].
الوطن الآمن يقوم على الائتلاف والاجتماع، وانتظام الناس تحت ولاية واحدة، وقد عُلِم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة؛ لأن مآلات الاجتماع، ونبذ الافتراق، فيها قيام الدين والدنيا، وانتظام الحياة، ولا يتأتى ذلك إلا بالسمع والطاعة لولي الأمر في المعروف؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
الانتماء لهذا الوطن المبارك التزام بالعقيدة والدين، واتباع منهج السلف الصالحين، ومراعاة الثوابت والأخلاق، وجميل الأعراف والعادات.
الانتماء للوطن برهانه الحرص على سلامته، وصون مكوناته، واحترام أفراده، وتقدير علمائه، واحترام النظام، والحفاظ على موارد الوطن ومكتسباته وعوامل بنائه ورخائه.
الوطن الآمن يُبنى على خُلُق التعاون، والأخوة الإيمانية، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
شكر نعمة الوطن الآمن؛ يكون برفع رايته، وعدم خيانته، وحراسته من دعاة الفساد والفتن والخراب الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ولي وطن آلَيْتُ ألَّا أبيعه وألا أرى *** غيري له الدهر مالكــــــــــا
فقد ألفته النفس حتى كأنه لهـــا *** جسد إن بان غُودرت هالكا
وفي ظل ما نراه من مجتمعات ودول صار أمنها مهزوزًا، وحماها مسلوبًا، والخوف في قراها ممدودًا؛ بسبب مخالفة أمر الله والكفر بالنعم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق: 8]، والسعيد من اعتبر بغيره، فعرف قدر هذه النعم، وتجنب الفتن والمِحَنَ، وأخذ الدروس والعِبَر، فالوطن الآمن المزدهر نعمة لا تُضاهى، وكنز ثمين يبحث عنه الملايين، ومن رُزق هذه النعمة فقد رُزق خيرًا كثيرًا.
والمملكة العربية السعودية نموذج مشرق متلألئ بين الأوطان، يرتدي بفضل الله حُلَلَ الأمن والاستقرار، وتيجان الرخاء والازدهار، في ظل قيادة حكيمة، مؤتمنة على أمن وطنها، وراحة شعبها، حتى أضحى موئلًا يقصده الناس من كل مكان: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن في الدين عصمة أمركم، وحسن عاقبتكم؛ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، فاشكروا نعمة الله عليكم؛ {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على النبي المصطفى المختار، وعلى المهاجرين والأنصار وعلى جميع الآل والصحب الأخيار.
محمد بن إبراهيم السبر
إمام وخطيب جامع الأميرة موضي بنت أحمد السديري بالعريجاء من عام 1418هـ ، والمدير التنفيذي المكلف لمكتب الدعوة وتوعية الجاليات بالبديعة بالرياض، والمتحدث الرسمي لفرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة الرياض
- التصنيف: