تأملات فى سورة الجمعة
إيمان الخولي
وكما أن سورة الصف تحدثت عن موقف بنى إسرائيل من الأنبياء وإيذائهم وكفرهم برسالتهم جاءت سورة الجمعة لتبين موقف بنى إسرائيل من التوراة وعدم التزامهم بحمل الرسالة
- التصنيفات: التفسير -
سورة الجمعة امتداد لسورة الصف فإن كانت سورة الصف تحدثت عن رسالة موسى عليه السلام وعيسى عليه السلام والبشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن سورة الجمعة تبين فضل الله على الأمة ببعثة النبى الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم لتكون استكمالا لمابدأت به الآيات فى سورة الصف وإن كانت الآيات فى سورة الصف تحث المؤمنين على وحدة الصف فى ملاقاة الأعداء فهنا فى سورة الجمعة نجد الآيات تحث المسلمين على الاجتماع على صلاة الجمعة التى تستوجب توحيد الصفوف وتبين فضل هذا اليوم
وكما أن سورة الصف تحدثت عن موقف بنى إسرائيل من الأنبياء وإيذائهم وكفرهم برسالتهم جاءت سورة الجمعة لتبين موقف بنى إسرائيل من التوراة وعدم التزامهم بحمل الرسالة
تبدأ السور ة بتسبيح لله عزوجل فالكون كله مسبح له يقر بوحدانيته هو الملك يملك كل شىء
إذ يقول تعالى : {(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)}
وذكر اسم الله الملك هنا ولم تذكر فى السور من قبلها لأنها تتناسب مع ذكر التجارة وانشغال المسلم بما يملك فى آخر السورة فهى دعوة للتبصر بالملك الذى بيده الأرزاق وهو المنزه عن كل نقص وكل وصف لا يليق بكماله وجلاله وعظمته وهو القوى الغالب الذى لايقهر المدبر لشئون خلقه بحكمته فيتفضل عليهم بارسال رسولا منهم
إذ يقول تعالى ( {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) } إنها إجابة دعاء إبراهيم عليه السلام حين دعا أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
فأرسل الله عزوجل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب وهو منهم ومثلهم أمى وقد يكون هذا هو الإعجاز أن تنزل الرسالة على أمى حتى لا يقول الناس أنه كتبه من عنده و من تأليفه واختار صفة الأمية ليصف بها المجتمع مجتمع جاهلى فى كل شىء فى عاداته وتقاليد ه فى موروثاته فى عبادته فقد كانوا يعبدون صنماً لا يضر ولا ينفع أرسل النبى صلى الله عليه وسلم ليحدث التغيير الجذرى فى هذه الأمة ولأن اليهود كانوا منتظرين رسولاً يخرج منهم هم أهل الكتاب وكانوا يستفتحون على العرب به ولكن شاءت حكمة الله أن يكون من العرب وليس من اليهود الذين دأبوا على الكبر والعناد وعلم الله ذلك من نفوسهم أنها لن تنصلح فنزع من أيديهم الأمانة وأورثها قوم آخرين يعلم أن الخيرية فيهم إلى يوم الدين إنها مشيئة الله أن يكون الإسلام امتداد للحنيفية السمحة وكانت العرب قد بعدت كثير عنها إلا القليل ممن تمسك بها وابتدعوا أشياء وأشركوا بالله فاشتدت الحاجة إلى بعثة نبى يتلو عليهم آيات الله التى فيها هدايتهم ليطهرهم من دعوى الجاهلية فى كافة نواحى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعقائدية ويخرجهم من ظلمات الشرك لنور التوحيد فتخشع قلوبهم لله ويمتثلون لأوامره بل لا يجدون متعتهم إلا فى التضحية بالنفس فى سبيل الله والسعى لإرضائه بكل وسيلة
وتقديم التزكية على التعليم فى هذه السورة في حين أننا نرى في سورة البقرة قدم الله تعالى فيها التعليم على التزكية" {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ "} [سورة البقرة:129] .وقد ذكر ابن الزبير الغرناطي توجيها لطيفا في هاتين الآيتين أن آية سورة البقرة كانت الدعوة من إبراهيم -عليه السلام- بالتعليم والتزكية قبل أن يوجد الضلال في الذرية المدعو لهاوهي ذرية إبراهيم عليه السلام- فجاء ذكر التعليم أولا، وباتباع هذا العلم وبما ينحونه من التعليم وما يتلى عليهم من الآيات ينال المدعو شرف التزكية، والسلامة من الضلال أما آية الجمعة فالغاية منها هو ذكر امتنان الله عليهم بهدايتهم بعد الضلال الذي وجد منهم، وإجابة دعوة إبراهيم-عليه السلام- لذا أخر ذكر تعليمهم الكتاب والحكمة المزيلين لضلالهم؛ ليكون بعده ذكر الضلال الذي أنقذهم الله منه بما علمهم وامتن عليهم حيث قال :" {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164)} "ولأن هنا فى سورة الجمعة قد بدأ بالتلاوة وتبليغ الدعوة ثم تطهير النفس من الرجس والشرك حتى تكون على استعداد لتلقى تعاليم الوحى والعمل بأحكامه
وكما تفضل الله عزوجل على العرب الأميين بإرسال رسولا منهم يعلمهم ويزكيهم أيضا تفضل على بنى إسرائيل برسالة التوراة وكلفهم بحمل الأمانة وتبليغها كما أنزلت فضيعوا وبدلوا وحرفوا فمثلهم فى ذلك كمثل الحمار يحمل فوق ظهره الكتب والأحمال ولا يدرى ماذا يحمل؟ ولا يفهم قيمته إنها صورة بائسة لمن كذب بآيات الله ولم يؤدى حقها ولكن السؤال الآن هل نزلت الايات لتحذر اليهود فقط من التخلى عن الأمانة أم أنها تشمل كل من حمل امانة هذا الدين تشمل المسلمين بالاسم ولم يعملوا بالإسلام الذين يقراءون القرآ ن ولم يؤثر فيهم ولم يغير من نفوسهم فالأمر ليس حمل إجازات وحفظ متون ولكن أين العمل بكتاب الله على مختلف الأصعدة فعلى الجانب الاجتماعى هل يعرف الزوجان مثلا ما لهما من حقوق وما عليهما من واجبات؟ هل تقسم المواريث بشرع الله أم أن الطمع قد ملأ النفوس واقتصاديا ماذا عن التعاملات الربوية ؟ هل كف الناس عن التعامل به ؟ و...و....كثيرا ما هم من تحملوا الأمانة ولم يحملوها
ثم تنتقل الآيات لدعوى جديدة من دعوى اليهود أنهم شعب الله المختار وأنهم أحباء الله وأولياؤه فدعاهم إلى المباهلة وهى أن كنتم كما تقولون فادعوا بالموت على الكاذب المضل من الفئتين
إذ يقول تعالى " {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94} " فلو كانوا على حق لتمنوا الموت ليخلصوا من هذه الحياة وكدرها ولما لم يفعلوا لكفرهم ومعاصيهم كشف كذب ادعائهم وعليه فإن الآيات تنبه المسلمين أن يفقهوا دينهم ويحسنوا حمل الأمانة حتى لا يكون عاقبتهم مثل اليهود فتسلب منهم الأمانة ولا يكون لهم السيادة على الأمم الآخرى وهذا حال المسلمين الآن
ولعل الدرس المستفاد من عناد اليهود واستكبارهم على غيرهم من الأمم أن على المسلم أن يعيش بين الخوف والرجاء فلا شىء مضمون كما يظن اليهود أنهم فى أمان من غضب الله كما قال تعالى : " فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99" سورة الاعراف
ثم يضع اليهود أمام حقيقة الموت وأنه لا مفر منه فإن تمسكهم بالحياة وفرارهم من الموت لن يمنعهم من ملاقاته فهو واقع لامحالة وأن لا ملجأ من الله إلا إليه وسوف يردون إليه يوم القيامة ليخبرهم بما صنعوا فى الحياة الدنيا ويجازيهم بما يستحقون إذ يقول تعالى :" { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8) } " فلابد للمسلم أيضا أن يضع أمامه هذه الحقيقة أن الحياة زائلة وأن الموت آت لا مفر منه فليعمل لهذا اليوم
وكما حث فى سورة الصف على وحدة صفوف المسلمين وعدم تفرقهم حث فى هذه السورة على التقاء المسلمين وتجمعهم فى صلاة أسبوعيه لا تصح إلا فى جماعة إذ يقول تعالى : {{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ}} يتركون فيها متاع الحياة الدنيا وتجارتهم التى هى مصدر رزقهم ليجتمعوا على ذكر الله ويعتبر هذا يوم عيد للمسلمين لإجتماعهم على الطاعة وذكر الله الذى فيه فلاحهم وكأن الشريعة لا تكتفى أن يصلى كل مسلم فى بيته منفردا ولكن لابد من لقاء أسبوعى يجتمعون فيه ولابد للنفس أن تنخلع من شواغل الدنيا لتتصل بخالقها وموجدها وقد ورد فى فضلها الكثير من الأحاديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {(لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَومَ الجُمُعَةِ، ويَتَطَهَّرُ ما اسْتَطَاعَ مِن طُهْرٍ، ويَدَّهِنُ مِن دُهْنِهِ، أوْ يَمَسُّ مِن طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فلا يُفَرِّقُ بيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي ما كُتِبَ له، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ، إلَّا غُفِرَ له ما بيْنَهُ وبيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى)} . [رواه البخارى]
وكما حث على حضور الجمع والجمعات وأنها مكفرات لما بينها من الذنوب قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «(الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ)» .رواه مسلم
وهى دعوة للمسلمين أن لا ينشغوا بما يمتلكون من تجارة ويتوجهوا بقلوبهم لملك السموات والأرض هو الذى يملك أقواتهم وأرزاقهم فعليهم أن يتقربوا إليه بطاعته ليفتح لهم أبواب الرزق وذكر البيع وليس الشراء لأن البيع فيه قبض وهو محبب إلى الناس وليس كالشراء
فإذا فرغتم من الصلاة فانتشروا فى الأرض بالسعى على الأرزاق والعمل والكد إذ يقول تعالى {{فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ}} (10)
وليسألوا الله من فضله ولا تنسوا ذكر الله فى كل وقت وعلى كل حال فهذا التوازن بين الدين والدنيا الذى تقدمه الأية هو سبيل الفلاح فى الدنيا والآخرة فمقتضيات صلاح الدنيا بالسعى فى الأرض وهى تجارة الدنيا وصلاح الدين بتغذية الروح بحسن الصلة بالله وتلك تجارة الآخرة فالمفلح حقا من ربح تجارة الآخرة
ولكن هناك فريق من الناس آثروا الحياة الدنيا على ما عند الله عندما وجدوا قافلة أقبلت تحمل تجارة فانشغلوا بها عن درس رسول الله فنزلت فيهم هذه الآيات {{وَإِذَا رَأَوۡاْ تِجَٰرَةً أَوۡ لَهۡوًا ٱنفَضُّوٓاْ إِلَيۡهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمٗاۚ قُلۡ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ مِّنَ ٱللَّهۡوِ وَمِنَ ٱلتِّجَٰرَةِۚ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلرَّـٰزِقِينَ} } (11)
فعن جابر - رضي الله عنه - قال : " « بينا نحن نصلي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إذ أقبلت عير تحمل طعاما ، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلا اثنا عشر رجلا ، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . فنزلت» : {( وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما )} . . "
ليحذرهم من آثار الفانى على الباقى فإن المال فتنة والشيطان يزين للإنسان أنك لا تفعل حرام إنما أنت تسعى على الرزق ليُلهى عن الصلاة وطاعة الله بصفة عامة فتطحنه الحياة وتسحقه ولا ينال منها إلا ما قدر له ويخرج منها مذموما وليعلم المسلم أن بالصبر على الطاعة لله تُفتح أبواب الرزق فلا بركة فى وقت أو مال بدون أداء حق الله فيه ولا شىء يساوى السكينة والطمأنية التى تسكن نفس المسلم بطاعة الله والرضا بما قسم