إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ

منذ 2022-10-23

وفي تسميته هنا وجعله {{خيراً}} إشارة لطيفة إلى أنه مال طيب لا خبيث، فإن الخبيث يجب رده إلى أربابه، ويأثم بالوصية فيه.


 

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (182)}

{{كُتِبَ}} فرض، وهو ظاهر في الوجوب {{عَلَيْكُمْ}} بيان حكم المال بعد موت صاحبه، فإنه لم يسبق له تشريع، ولم يفتتح بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم، ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات، فإنهم كانوا كثيرا ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن، وبها تختل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب كان تغييرها إلى حال العدل فيها من أهم مقاصد الإسلام.

{{إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}} حضور أسبابه وعلاماته الدالة على أن الموت المتخيل للناس قد حضر عند المريض ونحوه ليصيره ميتا.

{إِن تَرَكَ} عبر بفعل {ترك} وهو ماض عن معنى المستقبل، أي: إن يترك، للتنبيه على اقتراب المستقبل من المضي إذا أوشك أن يصير ماضيا، والمعنى: إن أوشك أن يترك خيرا.

{{خَيْراً}} مالا كثيرا، فأما من ترك مالاً قليلاً فالأفضل أن لا يوصي إذا كان له ورثة؛ لقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لسعد بن أبي وقاص -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «(إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) » [البخاري]

وفي تسميته هنا وجعله {{خيراً}} إشارة لطيفة إلى أنه مال طيب لا خبيث، فإن الخبيث يجب رده إلى أربابه، ويأثم بالوصية فيه.

{{الْوَصِيَّةُ}} هي العهد إلى غيره بشيء هام، ويشترط فيها أن يكون الموصي حاضر العقل غير فاقد الوعي.

{{لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ}} كانت عادة العرب في الجاهلية أن الميت إذا كان له ولد أو أولاد ذكور استأثروا بماله كله، وإن لم يكن له ولد ذكر استأثر بماله أقرب الذكور له من أب أو عم أو ابن عم الأدنين فالأدنين، وكان صاحب المال ربما أوصى ببعض ماله أو بجميعه لبعض أولاده أو قرابته أو أصدقائه، فلما استقر المسلمون بدار الهجرة واختصوا بجماعتهم شرع الله لهم تشريك بعض القرابة في أموالهم ممن كانوا قد يهملون توريثه من البنات والأخوات والوالدين في حال وجود البنين، ولذلك لم يذكر الأبناء في هذه الآية.

وفي الآية بيان لأهمية صلة الرحم، حيث أوجب الله الوصية للوالدين والأقربين بعد الموت؛ لأن صلة الرحم من أفضل الأعمال المقربة إلى الله؛ فروى البخاري عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً [جارية] وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي. قَالَ: (أَوَ فَعَلْتِ؟!) قَالَتْ نَعَمْ قَالَ: {(أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ) } فجعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلة الرحم أعظم أجراً من العتق.

{{بِالْمَعْرُوفِ}} بالعدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير، كقوله تعالى: {{وَعَلَىَ المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمعروفِ}} [البقرة:233] {{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ}} [النساء:19]

وقيل: ما تعارف عليه الناس كثيرا أو قليلاً بحيث لا يزيد عل الثلث.

وأصل المعروف الفعل الذي تألفه العقول، ولا تنكره النفوس، فهو الشيء المحبوب المرضي، سمى معروفا لأنه لكثرة تداوله والتأنس به صار معروفا بين الناس، وضده يسمى المنكر.

فالمعروف هنا العدل الذي لا مضارة فيه، ولا يحدث منه تحاسد بين الأقارب، بأن ينظر الموصى في ترجيح من هو الأولى بأن يوصي إليه لقوة قرابة أو شدة حاجة، فإنه إن توخى ذلك استحسن فعله الناس ولم يلوموه، ومن المعروف في الوصية إلا تكون للإضرار بوارث أو زوج أو قريب.

{{حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}} وخص هذا الحق بالمتقين ترغيبا في الرضا به؛ لأن ما كان من شأن المتقى فهو أمر نفيس، فليس في الآية دليل على أن هذا الوجوب على المتقين دون غيرهم من العصاة، بل معناه أن هذا الحكم هو من التقوى، وإن غيره معصية، وقال ابن عطية: خص المتقون بالذكر تشريفا للرتبة ليتبارى الناس إليها.

وخص الوالدين والأقربين لأنهم مظنة النسيان من الموصى، لأنهم كانوا يورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة.

قيل: كانت هذه الآية في بدء الإسلام، فنسخت بآية المواريث، وبقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الذي رواه الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: « سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ: (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)»

وقال قوم: بل الآية محكمة وليست بمنسوخة، لإمكان التخصيص؛ فيقال: إن قوله تعالى: في آية المواريث {{للوالدين والأقربين}} مخصوص بما إذا كانوا وارثين؛ بمعنى أنهم إذا كانوا وارثين فلا وصية لهم اكتفاءً لما فرضه الله لهم من المواريث؛ وتبقى الآية على عمومها فيمن سوى الوارث من سائر الأقرباء، وأن تكون الوصية ثلثاً فأقل، فإن زادت وأجازها الورثة جازت..

ودليل استحباب الوصية حديث سعد في الصحيح حيث أذن له الرسول في الوصية بالثلث، وقد تكون الوصية واجبة على المسلم وذلك إن ترك ديوناً لازمة، وحقوقا واجبة في ذمته فيجب أن يوصي بقضائها واقتضائها بعد موته لحديث البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ)»

  {{فَمَن بَدَّلَهُ}} هو الذي بيده تنفيذ الوصية، والتبديل يكون بالإبطال أو النقص أو الزيادة أو غيرها من أمور التحايل {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} تعليل للوعيد أي لأنه بدل ما سمعه وتحققه وعلمه جيدا، وإلا فإن التبديل لا يتصور إلا في معلوم مسموع؛ إذ لا تتوجه النفوس إلى المجهول.

{{فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}} لنفي الإثم عن الموصى صاحب المال، وأيضا إثمه يكون على الذي يأخذ ما لم يجعله له الموصى مع علمه إذا حاباه منفذ الوصية.

والمقصود من هذا القصر إبطال تعلل بعض الناس بترك الوصية بعلة خيفة ألا ينفذها الموكول إليهم تنفيذها، أي فعليكم بالإيصاء ووجوب التنفيذ متعين على ناظر الوصية فإن بدله فعليه إثمه.

وفيه أن من فعل الخير، ثم غُيِّر بعده كُتب له ما أراد من الثواب. وأن من بدل الوصية جهلاً فلا إثم عليه.

  {{إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}} وعيد للمبدل، لأن الله لا يخفى عليه شيء وإن تحيل الناس لإبطال الحقوق بوجوه الحيل وجاروا بأنواع الجور فالله سميع وصية الموصى ويعلم فعل المبدل، وإذا كان سميعا عليما وهو قادر فلا حائل بينه وبين مجازاة المبدل. والتأكيد بأنه ناظر إلى حالة المبدل الحكمية في قوله: {{فَمَنْ بَدَّلَهُ}} لأنه في إقدامه على التبديل يكون كمن ينكر أن الله عالم فلذلك أكد له الحكم تنزيلا له منزلة المنكر.

{{فَمَنْ خَافَ}} معنى خاف هنا الظن والتوقع {مِن مُّوصٍ جَنَفاً} الميل والجور والحيف عن الحق والعدل للخطأ دون تعمد الجور وعن غير قصد {{أَوْ إِثْماً}} معصية، أي تعمد وقصد الجور عن الحق والعدل {{فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ}} بين الموصي والموصى لهم، وهذا يشمل ما إذا كان قبل موت الموصي، أو بعده.

مثاله قبل موت الموصي: أن يستشهد الموصي، أو يستكتب شخصاً لوصيته، فيجد فيها جوراً، أو معصية، فيصلح ذلك؛ ومثاله بعد موته: أن يُطَّلع على وصية له تتضمن ما ذُكر فتُصْلح؛ مثال ذلك أن يوصي لوارث، فيُطَّلع على ذلك بعد موته، فتُصْلح الوصية إما باستحلال الوارث الرشيد؛ وإما بإلغائها إذا لم يمكن.

{{فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}} لا يلحقه حرج من تغيير الوصية؛ لأنه تغيير إلى ما فيه خير، والمعنى: أن من وجد في وصية الموصى إضرارا ببعض أقربائه، بأن حرمه من وصيته أو قدم عليه من هو أبعد نسبا، أو أوصى إلى غني من أقربائه وترك فقيرهم فسعى في إصلاح ذلك وطلب من الموصى تبديل وصيته، فلا إثم عليه في ذلك؛ لأنه سعى في إصلاح بينهم، أو حدث شقاق بين الأقربين بعد موت الموصى لأنه آثر بعضهم، ولذلك عقبه بقوله:

{{إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}} وفيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجا للإذن من الله تعالى والتنصيص على أنه مغفور.

وهذه الآية تفريع على الحكم الذي تقدمه، وهو تحريم التبديل، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيد المبدل لها، وتفرع عن وعيد المبدل الإذن في التبديل بالمعروف وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقة الإصلاح بين الموصى لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية، بأن كان جديرا بالإيصاء إليه فتركه الموصى أو كان جديرا بمقدار فأجحف به الموصى؛ لأن آية الوصية حصرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولا إلى أمانته بالمعروف، فإذا حاف حيفا واضحا وجنف عن المعروف أمر ولاة الأمور بالصلح.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 1
  • 0
  • 1,112

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً