التجديد مفهومه وضوابطه 1/2

منذ 2022-10-26

التجديد موضوع كبير أفرزته الثقافة الإسلامية المعاصرة، ودخل فيه أناس لا يتقنون فنه فضلا عن التكلم فيه، وقد اتخذ في الآونة الأخيرة – بحسن نية أو بسوء نية - مطية لتحريف أصول الدين وقواعده...

التجديد موضوع كبير أفرزته الثقافة الإسلامية المعاصرة، ودخل فيه أناس لا يتقنون فنه فضلا عن التكلم فيه، وقد اتخذ في الآونة الأخيرة – بحسن نية أو بسوء نية - مطية لتحريف أصول الدين وقواعده، ودفع أعداء الإسلام لذلك مجموعة من المرتزقة للحديث عنه واتخاذه مطعناً يطعن به الإسلام، فكان لا بد من كشف اللثام وبيان الحقيقة بين هذا الادعاء وذلك التأصيل، بصورة تأصيلية شرعية مع التفريق بين التجديد عند المسلمين بضوابطه وشروطه، وبين التجديد المدَّعى عند أرباب الأقلام والثقافة وغيرهم من المدسوسين؟

فهمان متقابلان:
التجديد له مفهومان: مفهوم شرعي دعا إليه الإسلام وطلب من المسلمين أن يباشروه وأن يسعوا إلى تحقيقه بضوابطه وشروطه، ومفهوم آخر اتخذه بعض المغرضين وسيلة للنيل من الإسلام ودس السم في العسل - كما يقال -، ولذلك تنطلق الثقافة المعاصرة اليوم تحت مسميات متعددة وشعارات مختلفة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، شعارات ومسميات براقة تخدع السامعين وتجعلهم يسيرون في ركابها ثم يتبين أنها سراب، أو أنها سموم القصد منها إفساد الدين والإسلام والمسلمين.!

فما هو التجديد؟
التجديد في اللغة: من جعل الشيء القديم جديداً.
وأما في الاصطلاح: فعندنا اصطلاحان:
الأول: الاصطلاح الشرعي المضبوط، الذي شرع في الإسلام وحث الإسلام عليه ودعا إليه، وهو يحتوي على ثلاث نقاط مهمة، فالتجديد في الاصطلاح الشرعي: هو "إعادة رونق الدين وجماله وصفائه، وإحياء ما اندرس منه، ونشره بين الناس". فهذه ثلاثة محاور للتجديد الشرعي المضبوط المستحب، ومطلوب من الناس أن يشاركوا فيها.

وأما التجديد بالمفهوم الآخر: فمعناه الانقضاض على أصول الدين وثوابته وكلياته، وهدمها وبناؤها بناءً جديداً، بنفسية المهزوم.. لموافقة ما تدعو إليه الحضارات المسيطرة على العالم، بمعنى أن الإسلام صار بالياً وقديماً فلا بد من إيجاد مفاهيم وقواعد وأحكام جديدة في الدين بحيث تتناسب وتتماشى مع الحضارة العالمية الغربية المعاصرة التي فيها العلو والاستكبار لهم والهزيمة والذل للمسلمين، فإذاً، شتان بين نوعي التجديد، فالأول تجديد للبناء، والثاني تجديد للهدم والإزالة.

والأصل في مشروعية التجديد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو هريرة وأخرجه أبو داوود والحاكم والترمذي وسنده صحيح: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».


وتجديد دينها يضمن لها الثلاثة المحاور التي اصطلح عليها علماء الشريعة:
- فإما أن يكون التجديد في محور إزالة تراكمات الانحرافات التي وقعت على تعاليم الإسلام بفعل سلوكيات المسلمين،
- أو أن يكون التجديد بإزالة البدع والخرافات التي ابتدعت في هذا الدين وخيمت عليه بسبب سوء الفهم مثلا،
- أو أن يكون التجديد في نشر محاسن الإسلام في باب العقائد وباب الأحكام وباب الأخلاق وباب المعاملات وفي سائر جوانب الشريعة ودعوة الناس للعمل به وامتثاله!

 

إزالة الانحرافات:
ومن المعلوم أن الدين الإسلامي جاء ليقطع جوانب المحدثات التي تزيل جمال الدين وتشوه منظره ورونقه قال - صلى الله عليه وسلم -:
«كل بدعة ضلالة»، وقال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، فالإسلام يجب أن يظل صافياً نقياً يأخذه الناس كما أخذه الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقاداً وسلوكاً ومعاملة.

فالدين يجب أن يبقى نظيفاً جديداً مثله في ذلك مثل الثوب النظيف الجديد، وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في قوله - تعالى -: {وثيابك فطهر}، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «تركتم على المحجة البيضاء»، ولهذا شاء الله - تعالى -أن يوجد المجددون لهذه الأمة الذين ينقون الدين مما علق به من إحداث المحدثين وشبه المبطلين.

ومسألة التجديد في هذا الدين مسألة شرعية؛ لأن الله - تعالى - قد ختم بنبيه الرسالة، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا يوجد بعده نبي ليجدد للناس دينهم كما كانت الأنبياء تبعث في بني إسرائيل لتجدد لها أمر دينها حيثما يحصل فيها انحراف، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء وشريعته صالحة لكل زمان ومكان.
إذاً لابد من وسائل لتظل الشريعة صافية نقية، ومن هذه الوسائل الوقائية: تولي الله الرسالة بحفظ الكتاب الكريم حفظا للدين:
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، ومنها ما منِّ الله - سبحانه - به على هذه الأمة من خصيصة الإسناد وحماية الشريعة من الوضاعين والكذابين على صاحبها - عليه الصلاة والسلام -، ومنها وجود العلماء الذين ينافحون عن هذا الدين ويبينون الحق من الزائف فيه دون أن ينقطع تسلسلهم عبر العصور، ومنها مسألة التجديد في هذا الدين لتكون أيضاً وسيلة لتنقية وتصفية ما يحدث في الدين من انحراف أو بدع أو خرافات ليرجع إلى ما كان عليه نقياً صافياً.

إحياء ما اندرس:
والمحور الثاني من التجديد هو إحياء ما اندرس منه، واندراس الشيء خفاؤه، واندراس الدين خفاء السنن وضياع الأحكام بسبب الجهل أو إحداث البدع، ولهذا قيل ما أحدثت بدعة إلا غطت سنة، فهذا الاندراس يحتاج إلى بيان وإحياء وإظهار، لذلك لا بد أن ينظر إلى كثير من العبادات التي ربما اندرست على كثير من الناس بسبب بعدهم عن العلم والعلماء، وبسبب حدوث البدع والخرافات التي غطت عليها.

ونشاهد اليوم اندراس مجموعة من قضايا الشرع والدين، فمثلاً، يظن كثير من أهل البدع أن الإيمان مجرد النطق بالشهادتين وإخراج العمل عن مسمى الإيمان، مما أدى إلى اندراس مفهوم الإيمان الصحيح في أذهان الناس بسبب بدعة المرجئة هذه، وأمثلة أخرى: مفهوم الولاء والبراء، مفهوم العبادة، مفهوم الحكم والتحاكم، مفهوم الجهاد، مفهوم الأخوة، مفهوم التوكل، مفهوم النصر، مفاهيم كثيرة جداً ضاعت من أذهان المسلمين وغابت عنهم وصارت مغلوطة لديهم، غير صحيحة.

نشر الدين بين الناس:
أما المحور الثالث وهو نشر هذا الدين بين الناس، بعد أن يصفو وينقى وتعاد إليه نضارته ورونقه وجماله، كما أنزله الله وكما بلغه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد أن بين ما اندرس منه وصححت المفاهيم المغلوطة حوله، عندها يحتاج إلى نشره بين الناس ليفهموه ويقوموا به كما أمرهم الله - سبحانه وتعالى -.

وتبرز أهمية هذا المحور حينما تخلت الدول والحكومات عن قضية تبليغ الدين وجعلته أمراً هامشياً في حياتها العملية، فكان لا بد من إيجاد جماعات الاحتساب وعلماء مجددين يبلغون هذا الدين للناس وينشرونه، وإذا رجعنا إلى مهام الخلافة الإسلامية في الشرع وعند علماء الإسلام قديماً وحديثاً سنجد أن أبرز مهامها حفظ الدين وسياسة الدنيا به ونشره بين الناس!!

وعلى هذا فإننا من خلال هذا التعريف الشرعي للتجديد عند علماء المسلمين نعرف ما هو الواجب علينا نحو هذا الدين من خلال هذا المفهوم الصحيح، ثم بعد ذلك تتنوع مجالات التجديد في الإسلام، وذلك لأن التجديد علاج لما يحدث من انحراف في حياة الناس فقد يكون الانحراف في جانب الاعتقاد فنحتاج إلى تجديد في جانب الاعتقاد، وقد يكون الانحراف في الأمة في جانب السلوك فنحتاج إلى تجديد في جانب السلوك والأخلاق، وقد يكون في الحكم والسياسة أو النظر والاستدلال أو في المفاهيم والتصورات التي يقدمها أعداء الإسلام عن الإسلام.. فنحتاج إلى تجديد في مجال فضح الاتجاهات والمناهج والسبل المخالفة للإسلام، وهكذا.. يحتاج كل جانب من الدين تجديداً بحسبه، وهكذا تتنوع مجالات التجديد ضمن التجديد المنضبط بالشرع تبعاً للانحراف أو للضعف والركود الذي يحصل في جانب من جوانب الإسلام.

وإذا كنا نشاهد اليوم الدين الإسلامي قد أصيب أهله بانحراف أو خلل في سائر هذه الجوانب، فما أحوجنا إلى التجديد الكلي في سائر الجوانب الشرعية، ولا يعني ذلك أن الانحراف الذي وقع في سلوك المسلمين أثر على منهج الإسلام، لا..! منهج الإسلام محفوظ بحفظ الله وإنما الانحراف حصل في التطبيق العلمي للإسلام من خلال المسلمين، ففرق بين الإسلام وبين حياة المسلمين.

 

شروط التجديد:
1- أن يكون المجدد من الفرقة الناجية: بمعنى ألا يكون المجدد من فرقة ضالة منحرفة، لأنه سيجدد على ضوء انحرافه وابتعاده عن الدين، فربما أصاب الدين بالفساد والانحراف تبعاً لتصرفاته وعقيدته المنحرفة. وقد جاءت الأحاديث وأقوال السلف موضحة لصفات الفرقة الناجية.. وليس المجال مجال سردها، فليرجع إلى مظانها!

2- أن يكون لدى المجدد الحد الكافي من العلم الشرعي: وبعض أهل العلم اشترط أن يكون مجتهداً ويمكن أن يضبط هذا الشرط ويقال: إن كان التجديد كلياً فيجب أن يكون الشخص المجدد مجتهداً مطلقاً، وإن كان التجديد جزئياً فيكفي أن يكون المجدد مجتهداً في المسألة والقضية التي سيجدد فيها. وهذا أقرب الأقوال إلى الصواب في مسألة هذا الشرط.

3- أن يكون المجدد صاحب همة عالية: كما مر في الحديث: [إن الله يبعث...] فكلمة يبعث تدل على أن المجدد ليس كسولاً ولا خاملاً ولا صاحب مصالح دنيوية دنيئة، بل هو صاحب همة عالية وإرادة وعزيمة قوية يسهر الليل ويتعب في النهار ويحقق في المسائل ويبذل جهده وماله ووقته من أجل أن يجدد شيئاً من دين هذه الأمة، فهو صاحب نشاط وعمل وحيوية وابتكار وإبداع. فما أبعد التجديد عن الكسالى والخاملين!
هذه الشروط التي اتفق عليها العلماء لتكون من شروط المجدد، وهناك شروط مختلف فيما بين أهل العلم.

هل وجد التجديد عملياً في أمة الإسلام؟
نعم، وجد التجديد واقعاً عملياً في أمة الإسلام كما في الحديث، يوجد على رأس كل مائة سنة مجدد، والآن نحن في القرن الخامس عشر وقد مضت 1400عام فمعنى ذلك أن يكون في أمة الإسلام أربعة عشر مجدداً، إذا قلنا بالتجديد الانفرادي لكل مائة سنة، وأكثر من ذلك إذا قلنا بالتجديد الجزئي أو الجماعي أو المتخصص الذي توزع فيه خصائص التجديد، وكمثال اتفق العلماء على كونه مجددا على رأس المائة الأولى: الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.

وهل حدث انحراف في المائة الأولى؟ نعم حدث، لكنه كان انحرافاً جزئياً، ولو تتبعنا أحوال المسلمين في القرن الأول بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنة العاشرة إلى سنة أربعين للهجرة لوجدنا أن الأمة كانت تمشي على وفق هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع مجالات الحياة، وهذه تسمى فترة الخلافة الراشدة، التي انتهت في شهر ربيع الأول من سنة41هجرية حينما تنازل الحسن بن علي بالخلافة لمعاوية رضي الله عن الجميع، فانتهت الأربعون سنة بما فيها فترة الخلافة الراشدة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الخلافة الراشدة فيكم ثلاثون عاماً».

وبتولي معاوية - رضي الله عنه - الحكم كان أول ملوك الإسلام وأحسنهم عدلاً وأفضلهم سيرة وصلاحاً، ثم من بعده بدأ الانحراف في هذا الباب -الحكم والسياسة- فبعث الله - تعالى – وقيض لهذه الأمة وأخرج لها - في سنة 99هجرية قبل انتهاء المائة الأولى- خليفة راشدا جدد لها في الحكم والسياسة، وهو عمر بن عبد العزيز، حيث أعاد الحكم شورى، وولى الولاية لمن يستحقها ويقدر عليها، وأعاد الأمر إلى نصابه، ونشر العلم ودون السنة، وألغى الضرائب، وانتشر الخير في خلافته خلال سنتين أو ثلاث من عام 99 إلى عام 101هجرية حيث توفي فيه.

لقد بدا أن الأمة قد رجعت في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عهد الخلافة الراشدة في الحكم والسياسة والقضاء والإدارة!! بعد ما طرأ عليها، حتى لقد تحولت القضية الاقتصادية في زمنه من فقر إلى ثراء عظيم، فقد كان يأمر - رحمه الله - الولاة بتوزيع الصدقات على المسلمين فلا يجدون محتاجاً مع مناداتهم عليها، فيقول الناس: لا نحتاج قد أغنانا الله! فترجع إلى بيت المال!

هذا جانب عملي للتجديد، وهو تجديد فردي، في جزء وجانب من جوانب الدين حينما يحدث فيه نوع من الخلل والانحراف.

ونضيف -هنا- مثلاً آخر للتجديد الذي وقع في هذه الأمة حينما استمر الناس في العلم واستنباط الأحكام، وظهرت المذاهب الفقهية وحصل عند الناس نوع من التعصب في أخذ مسائل الدين، فحصل انحراف في باب النظر والاستدلال فإذا الأمة محتاجة إلى مجدد في هذا الباب فكان على رأس المائة الثانية محمد بن إدريس الشافعي، وهو أول من أصل أصول الفقه في كتابه "الرسالة"، فكان المجدد في عصره. ثم اختلف أهل العلم - بعد الشافعي - هل المجدد فرد أم جماعة؟
والذي يظهر من استقراء الواقع الفكري للأمة وانحرافاتها أن التجديد صار بعد الشافعي تجديدا جماعيا، وصار لكل جانب من يجدد فيه، ويمكن أن يجتمع في القرن الواحد عدة مجددين كل منهم يجدد جانباً من الحياة.

وفي القرن السادس الهجري برز نوع جديد من التجديد بعد إصابة الأمة بالهزيمة وسقوط بغداد في عهد التتار وهو التجديد الجهادي، برز بآراء وحكمة وتربية محمود زنكي ثم من بعد تلميذه صلاح الدين الأيوبي، الذي أحيا روح الجهاد بعد أن ماتت في الأمة أو ضعفت، ووحد صفوفها بعد فرقة وشتات وانحراف، ثم عاد بالأمة مجاهدة قوية واستعاد القدس بعد أن كانت تحت أيدي الصليبين عدة سنوات فكان هذا مثالاً للتجديد في ذلك العصر. 

_____________________________________________________________

اسم الكاتب: حسن بن محمد شبالة

  • 2
  • 1
  • 1,401

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً