حديث (يا عبادي إني حرمت الظلم ...)
«يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم...».
روى الإمام مسلم عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عنِ الله تبارك وتعالى أنه قال:
«يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكْسُكم، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا؛ فاستغفروني، أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفْجَرِ قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أُدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه»، وفي رواية الترمذي: «ذلك بأني جواد ماجد، أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردتُه أن أقول له: كن فيكون».
♦ حديث قدسي: الألفاظ فيه نبوية، والمعاني ربانية.
♦ النداء الرباني تكرر عشر مرات في هذا الحديث الجليل.
♦ قال عنه الإمام أحمد رحمه الله: "هو أشرف حديث رواه أهل الشام"؛ رواه التابعي أبو إدريس الخولاني، عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري.
♦ وأبو إدريس الخولاني قاضي دمشق وعالمها وواعظها، من كبار التابعين، وُلد عام الفتح، وأدرك عددًا كبيرًا من الصحابة، وكان أبو إدريس إذا حدَّث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جثا على ركبتيه؛ من شدة وَقْعِهِ عليه وتأثره به.
♦ والصحابي الجليل أبو ذر جندب بن جنادة رضي الله تعالى عنه، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: «ما أظلَّتِ الخضراء -أي السماء- ولا أقلَّتِ الغبراء -أي حملت الأرض- من ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبي ذر»؛ للمبالغة في صدقه؛ (أحمد، والترمذي).
«يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا»
♦ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وكلُّ وضع للشيء في غير موضعه، فالله تبارك وتعالى منزَّه عنه.
♦ قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
♦ وقال: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 12].
♦ فهو سبحانه إن عذَّب الخلق، فلا يعذبهم إلا عدلًا، وإن رحمهم فلا يرحمهم إلا فضلًا منه عز وجل وتكرمًا.
♦ والله تبارك وتعالى قال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44]، وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]، فهو عز وجل لا يريد الظلم ولا يحبه، وقد حرَّمه على نفسه، لن يريده ولن يقبله من أحد أبدًا.
♦بل هو تعالى كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلِتْه»، وقال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183].
♦ وقال صلى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمات يوم القيامة»، وقال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ...».
♦ والمقصود بذلك هو أن يقوم الناس بالقسط، وقد جاء عن غير واحد من السلف؛ ورُوي مرفوعًا: ((الظلم ثلاثة دواوين: فديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا.
فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا؛ فهو الشرك؛ فإن الله لا يغفر أن يُشرَك به.
وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا؛ فهو ظلم العباد بعضهم بعضًا؛ فإن الله لا بد أن ينصف المظلوم من الظالم.
وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا؛ فهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه))؛ أي: مغفرة هذا الضرب ممكنة بدون رضا الخلق، فإن شاء عذب هذا الظالم لنفسه، وإن شاء غفر له.
♦ وكان شداد بن أوس يقول: "يا بقايا العرب، يا بقايا العرب، إنما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية".
قال أبو داود السجستاني صاحب السنن المشهورة: "الشهوة الخفية: حب الرياسة؛ وذلك أن حب الرياسة هو أصل البغي والظلم، كما أن الرياء هو من جنس الشرك أو مبدأ الشرك".
♦ ومن تاب مِن ظلمٍ لم يسقط بتوبته حق المظلوم، لكن من تمام توبته أن يعوِّضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا، فلا بد له من العِوض في الآخرة، فينبغي للظالم التائب أن يستكثر من الحسنات، حتى إذا استوفى المظلومون حقوقهم لم يبقَ مفلسًا.
ومع هذا فإذا شاء الله أن يعوِّض المظلوم من عنده، فلا رادَّ لفضله، كما إذا شاء أن يغفر ما دون الشرك لمن يشاء.
ولهذا في حديث القصاص الذي ركب فيه جابر بن عبدالله إلى عبدالله بن أنيس شهرًا حتى شافهه به، وقد رواه الإمام أحمد وغيره، واستشهد به البخاري في صحيحه، وهو من جنس حديث الترمذي، صحاحه أو حسانه؛ قال فيه:
«إذا كان يوم القيامة فإن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب: أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولا لأحد من أهل النار قبله مظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، ولا لأحد من أهل الجنة حتى أقصَّه منه».
فبيَّن في الحديث العدل والقصاص بين أهل الجنة وأهل النار.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد: «أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط، وقفوا على قَنْطَرَةٍ بين الجنة والنار فيُقتص لبعضهم من بعض، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دخول الجنة».
وفي الحديث الصحيح: «من كان عنده لأخيه مظلمة في دم أو مال أو عِرْضٍ، فليأتِهِ فليستحلَّ منه، قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار، إلا الحسنات والسيئات، فإن كان له حسنات، وإلا أُخذ من سيئات صاحبه، فطُرحت عليه، ثم يُلقَى في النار».
♦ وهذا فيما علِمه المظلوم من العوض، فأما إذا اغتابه أو قذفه ولم يعلم بذلك، فقد قيل: من شرط توبته إعلامه، وقيل: لا يشترط ذلك؛ وهذا قول الأكثرين، وهما روايتان عن أحمد، لكن قوله مثل هذا أن يفعل مع المظلوم حسنات؛ كالدعاء له، والاستغفار، وعمل صالح يهديه إليه يقوم مقام اغتيابه وقذفه؛ قال الحسن البصري: "كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته".
♦فكل خير داخل في القسط والعدل، وكل شر داخل في الظلم؛ ولهذا كان العدل أمرًا واجبًا في كل شيء، وعلى كل أحد، والظلم محرمًا في كل شيء، ولكل أحد، فلا يحل ظلم أحد أصلًا، سواء كان مسلمًا أو كافرًا.
♦ فإن هذا خطاب لجميع العباد ألَّا يظلم أحدٌ أحدًا، وأمر العالم في الشريعة مبنيٌّ على هذا، وهو العدل في الدماء والأموال، والأبضاع والأنساب، والأعراض؛ ولهذا جاءت السنة بالقِصاص في ذلك، ومقابلة العادي بمثل فعله.
لكن المماثلة قد يكون علمها أو عملها متعذرًا أو متعسرًا؛ ولهذا يكون الواجب ما يكون أقرب إليها بحسب الإمكان، ويُقال: هذا أمثل، وهذا أشبه.
وهذه الطريقة المثلى لما كان أمثل بما هو العدل والحق في نفس الأمر؛ إذ ذاك معجوز عنه؛ ولهذا قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]، فذكر أنه لم يكلف نفسًا إلا وسعها، حين أمر بتوفية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لا بد له أن يفضل أحد المكيلين على الآخر، ولو بحبة أو حبات، وكذلك التفاضل في الميزان قد يحصل بشيء يسير لا يمكن الاحتراز منه؛ فقال تعالى: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].
«يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدِكم»
♦ لما ذكر في أول الحديث ما أوجبه من العدل، وحرمه من الظلم على نفسه وعلى عباده - ذكر بعد ذلك إحسانه إلى عباده، مع غناه عنهم، وفقرهم إليه، وأنهم لا يقدرون على جلب منفعة لأنفسهم، ولا دفع مضرة، إلا أن يكون هو الميسِّر لذلك.
وأمر العباد أن يسألوه ذلك، وأخبر أنهم لا يقدرون على نفعه ولا ضره، مع عِظَمِ ما يوصل إليهم من النَّعماء، ويدفع عنهم من البلاء.
♦ «فاستهدوني أهدكم»: أي: أخرجكم من الضلال الذي يسبب شقاء الدنيا والآخرة، والذي لا فلاح معه ولا نجاح، ولا خير فيه ولا سعادة.
♦ ومن هدايته لهم: أنه خلقهم على الفطرة القويمة، وأنه أرسل إليهم الرسل، وأنه أنزل عليهم الكتب، وأنه أعطاهم العقول؛ ليفكروا بها وليتدبروا طريقهم بها؛ قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78].
فإذًا كلنا ضُلَّال إلا من هدى الله، فماذا ينبغي لنا أن نفعل؟!
«فاستهدوني أهدكم»، فما علينا إلا أن نطلب الهداية من الله تبارك وتعالى آناء الليل، وآناء النهار؛ ولهذا أمر المؤمنون أن يقرؤوا في كل ركعة من صلاتهم أمَّ الكتاب؛ وفيها يقولون: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7].
♦ فإذا أقبل العبد على الله وطلب الهداية ورجاه، فإن الله تبارك وتعالى يهديه ولا يخيبه؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، فمن جاهد في الله يريد وجه الله، ويريد معرفة الحق، أوصله الله تبارك وتعالى إليه.
♦ إذًا الافتقار ابتداءً هو الافتقار إلى الهداية، وهو أشد أنواع الافتقار بالنسبة للمخلوق، فالعبد المخلوق أفقر ما يكون إلى هداية الله؛ ولذلك قُدِّمت الهداية على الطعام وعلى الكساء؛ لأن أهم شيء هو أن يهتديَ الإنسان إلى الله تبارك وتعالى؛ كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [الرحمن: 1 - 3].
فامتنَّ الله تبارك وتعالى بتعليم القرآن قبل منَّة خلق الإنسان، مع أن الإنسان لن يستطيع قراءة القرآن إلا إذا خُلق، ولكن أعظم من كونه مخلوقًا أن يكون عالمًا بالقرآن، عاملًا به، مهتديًا إلى ربه، وإلا فكم من مخلوق لا يعرف ربه ولا يعرف القرآن، فحياته نقمة عليه؛ لأنه والدواب سواء! قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، فهم أضل من الأنعام.
♦ فالهداية هي أحوج ما يبحث عنه الإنسان، وأشد ما يفتقر إليه، ولذلك فإنها قُدمت في هذا الحديث على ما سيلحقها بعد ذلك.
«يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم»
♦ قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت: 17]، فالناس غالبًا ما يعلِّقون طلب الرزق بالأسباب، وينسَون خالق الأسباب؛ وهو القائل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
♦ وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14].
♦ ومن هنا يُعرَف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب، بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب.
♦ روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس، قال: ((كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، يقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس؛ فقال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].
«يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكْسُكُم»
♦ فكثير من الناس لا يفطنون ولا يتنبَّهون إلى نعمة الكساء؛ لأنها لكثرتها ولوفرتها ولعموم فائدتها تبلَّد الإحساسُ بها، إلا من عانى ومن ذاق عدم اللباس.
♦ وفي الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليسأل أحدكم ربه حاجتَه كلَّها، حتى شِسْع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم يُيَسِّرْه لم يتيسَّر».
«يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا؛ فاستغفروني، أغفر لكم»
♦ فهذه حقيقة لا مناصَ لأي إنسان أن يفرَّ منها، أو يكابر، أو ينكرها، فنحن العباد نخطئ بالليل والنهار، وكل بني آدم خطَّاء، فالقلب يخطئ بالخطرات والأفكار، والوساوس الرديئة، والأماني الكاذبة، والعين، والأذن، واللسان؛ قال صلى الله عليه وسلم: «وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم».
♦ وقد كان صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم مائة مرة أو أكثر من مائة مرة، بل كان ربما استغفر في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة؛ ففي حديث مسلم: «إنه لَيُغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة».
♦ فسبحانه وتعالى القائل في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]، فهذا الغني الحميد هو من يقول لهؤلاء الفقراء وكلنا فقير: "يا أيها العبيد استغفروني، واطلبوني الهداية، واطلبوني الإطعام؛ واطلبوني الكساء، واطلبوني أن أغفر لكم ذنوبكم؛ لأنكم لا تنفكون عن ذنب آناء الليل وآناء النهار"، فأي إنعام وإحسان وتكرُّم وفضل بعد ذلك؟! وهو عز وجل لا يقنِّط عباده، ولا يخيِّب من أتاه ومن رجاه، ولو أتاه بملء الأرض من الخطايا.
♦ وفي الحديث القدسي: «يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي»، سبحان الله! لا يبالي مهما كان عِظَمُ ذنبه، فأين المستغفرون؟ وأين الأوَّابون؟ وأين التائبون؟ فيكفي أن تُقْبِلَ على الله، وأن تطرُقَ باب الكريم الودود، فلا يردك أبدًا، ولا يخيبك أبدًا، فالله عز وجل منه المفر وإليه الملجأ؛ كما جاء في دعائه صلى الله عليه وسلم: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك ...».
«يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني»
♦ بيَّن بذلك أنه ليس هو فيما يحسن به إليهم من إجابة الدعوات، وغفران الزلات بالمستعيض بذلك منهم جلب منفعة، أو دفع مضرة، كما هي عادة المخلوق الذي يعطي غيره نفعًا ليكافئه عليه بنفع، أو يدفع عنه ضررًا ليتَّقِيَ بذلك ضرره.
♦ ولو أراد أحد أن ينفع الله تبارك وتعالى، فهل ينفع رب العالمين بشيء؟! لا؛ لأنك أنت الفقير وأنت المحتاج إليه سبحانه وتعالى؛ فهو الغني الحميد، والعباد هم الفقراء إليه سبحانه وتعالى.
♦ ثم وضح الله سبحانه وتعالى ذلك وجلَّاه وبيَّنه فيما بعد؛ فقال:
«يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا».
♦ فلا يزيد ملكه بالطاعة، ولا ينقص بالمعصية؛ كما قال بعد ذلك:
«يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا».
ولهذا ذكر هذين الأصلين بعد هذا، فذكر أن بِرَّهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم لا يزيد في ملكه ولا ينقص، وأن إعطاءه إياهم غايةَ ما يسألونه نسبته إلى ما عنده أدنى نسبة، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم ممن يزداد ملكه بطاعة الرعية، وينقص ملكه بالمعصية، وإذا أعطى الناس ما يسألونه أنفد ما عنده، ولم يغنهم، وهم في ذلك يبلغون مضرته ومنفعته، وهو يفعل ما يفعله من إحسان وعفوٍ، وأمر ونهي؛ لرجاء المنفعة، وخوف المضرة.
♦ ثم أخبر الله تبارك وتعالى بعد ذلك بما يدل على الغنى المطلق الذي لا يحده حدٌّ، والعطاء الواسع؛ فقال:
«يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَطُ إذا أُدخل البحر».
♦ فهو كما قال عز وجل؛ كما في مسند الإمام أحمد: «عطائي كلام، وعذابي كلام»؛ أي: يقول للشيء: كن فيكون، فماذا ينقص من خزائن الله تبارك وتعالى، وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون؟
♦ كما أنه لا يكون علم المخلوقين بالنسبة إلى علم الله تبارك وتعالى إلا كهذه النسبة، كما ضرب الخضر عليه السلام لموسى عليه السلام ذلك؛ حين قال: «ما مَثَلُ علمي وعلمك في علم الله تبارك وتعالى إلا كمثل ما أخذ ذلك الطائر من البحر»، وكم أخذ من البحر؟! فهذا هو العليم؛ علمه كذلك، وملكه كذلك، وغناه كذلك سبحانه وتعالى.
«يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه»
♦ هذا هو النداء العاشر، والخلاصة المهمة التي يجب أن ينتبه لها كل المخلوقين.
♦ فبيَّن سبحانه أنه محسن إلى عباده في الجزاء على أعمالهم الصالحة إحسانًا يستحق به الحمد؛ لأنه هو المنْعِم بالأمر بها، والإرشاد إليها، والإعانة عليها، ثم إحصائها، ثم توفية جزائها، فكل ذلك فضل منه وإحسان؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، وهو وإن كان قد كتب على نفسه الرحمة، وكان حقًّا عليه نصر المؤمنين، فليس وجوب ذلك كوجوب حقوق الناس بعضهم على بعض، الذي يكون عدلًا لا فضلًا؛ لأن ذلك إنما يكون لكون بعض الناس أحسن إلى البعض؛ فاستحق المعاوضة.
♦ وكما بيَّن جل شأنه أنه محسن في الحسنات، متم إحسانه بإحصائها والجزاء عليها، بيَّن أنه عادل في الجزاء على السيئات؛ فقال: «ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»؛ لأن الحجة قد قامت عليه، ولأن الإعذار قد أتاه، والنذير قد جاءه، وأيًّا كان هذا النذير، فقد جاءه النذير، وقد رأى الآيات البينات وما عصى إلا على بينة وعلم.
♦ فاللوم حينئذٍ يتوجه إلى ذلك العبد وإلى نفسه الأمارة بالسوء، وليس إلى الله سبحانه وتعالى، وليس إلى المقادير؛ كما يفعل ذلك الكفار: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106]، فهذه العلل وهذه الأعذار لا تنفع حينها.
♦ وهنا انقسم الناس أقسامًا في إضافة الحسنات والسيئات، التي هي الطاعات والمعاصي إلى ربهم وإلى نفوسهم، فشرهم الذي إذا أساء، أضاف ذلك إلى القدر، واعتذر بأن القدر سبق بذلك، وأنه لا خروج له على القدر، فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن، أضاف ذلك إلى نفسه، ونسِيَ نعمة الله عليه في تيسيره لليسرى، وهذا حال شرار الجاهلين الظالمين الذين لا حفظوا حدود الأمر والنهي، ولا شهدوا حقيقة القضاء والقدر؛ كما قال فيهم الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي: "أنت عند الطاعة قدريٌّ، وعند المعصية جبريٌّ، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به".
وخير الأقسام - وهو القسم المشروع وهو الحق الذي جاءت به الشريعة - أنه إذا أحسن شكر نعمة الله عليه وحمده؛ إذ أنعم عليه بأن جعله محسنًا ولم يجعله مسيئًا؛ فإنه فقير محتاج في ذاته وصفاته، وجميع حركاته وسكناته إلى ربه، ولا حول ولا قوة إلا به، فلو لم يهدِهِ لم يهتدِ؛ كما قال أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43]، وإذا أساء اعترف بذنبه، واستغفر ربه، وتاب منه، وكان كأبيه آدم؛ الذي قال: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، ولم يكن كإبليس؛ الذي قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39].
__________________________________________________________
أهم المصادر:
♦ إنعام الباري في شرح حديث أبي ذر الغفاري، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق د. عبدالعلي حامد.
- التصنيف: