( إلى الجنة بغير حساب... سبقك بها عكاشة )

منذ 2022-10-29

في هذه اللحظات الرهيبة ينتظر كلُّ واحدٍ دورَه ليُنادَى عليه؛ ليقف بين يدي الجبَّار للحساب، في يوم كان مقدارُه خمسين ألف سنة

مقدمة:

أيها الأحبَّة الكِرام، إن هوْلَ القيام بين يدي الله في أرض المحشر لعظيم، فالشمس فوق الرؤوس بمقدار ميل، تكاد الرؤوس تَنصهر من حرارتها، والناس ينغمسون في عَرَقهم، كلٌّ حسب عمله؛ فمنهم مَن يكون عَرَقُه إلى كَعْبيه، ومنهم إلى رُكبتيه، ومنهم إلى حَقْوَيه، ومنهم مَن يُلجمه العَرَق إلجامًا، والبشريَّةُ كلُّها من لَدُن آدمَ إلى آخر رجلٍ قامتْ عليه الساعة في صعيد واحد، يقفون حُفاة عُراةً غُرْلاً - غير مختونين؛ ﴿  {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}  ﴾ [الأنبياء: 104].

يكاد الزحام وحْده يَخنق الأنفاس، والأعظم من ذلك هوْل ورهبة جهنَّم التي قد أُتِيَ بها في أرض المحشر لها سبعون ألف زمام، مع كلِّ زمام سبعون ألف مَلَك يجرُّونها، إذا رأتْ جهنَّم الخلائق، زفَرَت وزَمْجَرت؛ غضبًا منها لغضبِ الله - جل وعلا - فعند ذلك تَجْثُو جميعُ الأُمم على الرُّكَب؛ ذعرًا وفزعًا منها؛ قال - تعالى -: ﴿  {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}  ﴾ [الجاثية: 28].

في هذه اللحظات الرهيبة ينتظر كلُّ واحدٍ دورَه ليُنادَى عليه؛ ليقف بين يدي الجبَّار للحساب، في يوم كان مقدارُه خمسين ألف سنة، ليحاسَب المرءُ على كلِّ عملٍ عَمِله، على كلِّ دينار كان يَملكه، من أين اكتَسَبه؟ وفيمَ أنفقَه؟ بل على كلِّ كلمة نطَق بها، ولنا وقفة - إن شاء الله - مع مشهد الحساب وأهوال ذلك اليوم العظيم.

ولكننا اليوم نقف مع زُمرة من الناس تنسلُّ من بين الخَلْق؛ لتصعد وتأخذَ مكانها في الجنة مباشرة، من غير حساب ولا عذاب! فمَن هم يا تُرَى هؤلاء السُّعداء؟ وهل نستطيع أن نكون منهم يوم القيامة؟

• روى البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: خرَج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: ((عُرِضَت عليّ الأُمم، فجعل يمرُّ النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرَّهْط - دون العشرة - والنبي ليس معه أحد، ورأيتُ سوادًا كثيرًا سدَّ الأُفق، فرجوتُ أن تكون أُمَّتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر، فرأيتُ سوادًا كثيرًا سدَّ الأُفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيتُ سوادًا كثيرًا سدَّ الأُفق، فقيل: هؤلاء أُمَّتك، ومع هؤلاء سبعون ألفًا يدخلون الجنَّة بغير حساب))، فتفرَّق الناس، ولَم يُبَيِّن لهم، فتذاكَر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أمَّا نحن، فوُلِدنا في الشِّرْك، ولكنَّا آمنَّا بالله ورسوله، ولكنَّ هؤلاء هم أبناؤنا فبلَغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (( «هم الذين لا يتطيَّرون، ولا يَسْتَرْقون، ولا يكتوون، وعلى ربِّهم يتوكلون» ))، «فقام عُكَّاشة بن مِحْصَن، فقال: أَمِنهم أنا يا رسول الله، قال: ((نعم))، فقام آخَرُ، فقال: أَمِنهم أنا، فقال: ((سبَقَك بها عُكَّاشة))» .

وهكذا نجد اهتمام أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بهذا الخبر، وهذه المزية العظيمة، وتساؤلهم عن أصحابها: تُرى هل هم أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين هاجَروا معه، والذين تبوَّؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون مَن هاجَر إليهم - أعني الأنصار - الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه بنصِّ القرآن الكريم؟ قال بعضهم: لكنَّا وُلِدنا في شِرْك الجاهلية، فرُبَّما هم أبناؤنا الذين لَم يُشركوا بالله شيئًا، ونشؤوا وترعْرَعوا على توحيد الله وطاعته.

خطورة الشِّرْك:

أجَلْ، لقد عرَف الصحابة خطورة الشِّرْك بالله؛ ﴿  {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}  ﴾ [المائدة: 72]، ﴿  {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ﴾ [الزمر: 65]، ﴿ إِ {نَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } ﴾ [النساء: 116].

فبلَغ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - تساؤلهم هذا، فعاد ووصَفهم بقوله: «((هم الذين لا يتطيَّرون، ولا يَسْتَرْقون، ولا يَكْتوون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون))» .

1- التطيُّر: والطِّيَرَة: تشاؤم بالطَّيْر، فقد كان أحدهم إذا كان له أمْرٌ، فرأى طيرًا طار يَمنة، استبشر واستمرَّ في أمْره، وإن رآه طارَ يَسرة، تشاءَم به ورجَع، وتُطْلَق على التشاؤم مطلقًا، وقد نهَى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن التشاؤم، وكان يُعْجبه عكس ذلك، وهو التفاؤل بالخير.

• روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «((لا طِيَرَة، وخيرُها الفأْل))» ، قالوا: وما الفأْلُ؟ قال: «((الكلمة الصالحة يَسمعها أحدكم))» .

ولَمَّا قال له معاوية بن الحَكم: ومنَّا رجال يتطيَّرون، قال: «((ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدنَّهم))» ؛ [مسلم] .

قال العلماء: معناه أنَّ الطِّيَرَة شيءٌ تجدونه في نفوسكم ضرورةً، ولا عتَبَ عليكم في ذلك، لكن لا تَمتنعوا بسببه من التصرُّف في أموركم.

فلا يقولنَّ قائل: لن أعملَ مع فلان، أو لن أسافرَ معه، أو لن أتزوَّج من فلانة، أو لا أحب لونَ كذا، أو يوم كذا، فأنا متشائِم من ذلك، وهذا كلُّه مَنهيٌّ عنه في حديث: ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ))؛ رواه أحمد، وأصحاب السُّنن، وهو في الصحيحة، وفي الحديث: ((مَنْ ردَّتْه الطِّيَرَةُ عن حاجته، فقد أشْرَك))، [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير]، فقالوا: يا رسول الله، وما كفارةُ ذلك؟ قال: يقول: ((اللهم لا طيرَ إلاَّ طيرُك، ولا خيرَ إلاَّ خيرُك، ولا إله غيرُك))؛ رواه أحمد.

فالأصل أن يعتقدَ المسلمُ أنَّ الأمر كله لله؛ قال - تعالى -: ﴿  {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } ﴾ [الحديد: 22 - 23].

2- ولا يَسْتَرْقُون: الاسترقاء: طلب الرُّقْية، فلا يطلبون الرُّقية من الغيْر اعتمادًا كليًّا على الله - عزَّ وجلَّ - فطلَبُ الرُّقْية من الغيْر - وإن كان جائزًا - فهو مكروه لهذا الحديث، أمَّا الرُّقية الشرعيَّة للمريض، فقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( «مَن استطاع منكم أن ينفعَ أخاه، فليفعلْ» ))؛ [مسلم] .

وهذا فيه استحباب رُقْية المسلم لأخيه المسلم بما لا بأْسَ به من الرُّقَى، وذلك ما كان معناه مفهومًا مشروعًا، كأن يُرْقِي بالمعوذات والقرآن، أو بالأذكار الثابتة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمَّا الرُّقَى بما لا يُعْقَل معناه من الألفاظ أو الطلاسم، فغيرُ جائزة، بل قد تَدْخُل في أبواب الشِّرْك بالله - سبحانه.

وقال بعضهم: أراد - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالاسترقاء الذي كانوا يَسْتَرْقون به في الجاهلية، وأمَّا الاسترقاء بكتاب الله، فقد فعَلَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمَر به، وليس بمخرج عن التوكُّل، لكن المنهي عنه أن يعتقدَ أن الرُّقْيَة نافعة لا مَحالة، فيتَّكِل عليها، وإيَّاها أراد بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «((مَن اكتوَى أو اسْتَرْقَى، فقد بَرِئ من التوكُّل))»  [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه]؛ الصحيحة، وقد أمَر - صلَّى الله عليه وسلَّم - غيرَ واحدٍ من الصحابة بالرُّقْية، وسَمِع بجماعة يَرْقُون، فلم يُنكر عليهم.

3- ولا يَكْتَوون: الكَي: باب من أبواب التداوي والمعالجة، ومعلوم أنَّ طلبَ العافية بالعلاج والدعاء مُباح بما عُرِف من الأصول، فمَن ترَك الكَي - ثقةً بالله وتوكُّلاً عليه - كان أفضلَ؛ لأنَّ هذه مَنزلة يقينٍ صحيح، وتلك مَنزلة رُخصة وإباحة.

عن ابن عباس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «((الشفاء في ثلاثة: في شَرْطة مِحْجم، أو شَرْبة عسلٍ، أو كَيَّة بنار، وأنَهى أُمَّتي عن الكَي))» ؛ [رواه البخاري] .

وقد صحَّ أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كوَى سعدًا بن معاذ في أَكْحَله مرَّتين؛ رواه ابن ماجه، ومسلم.

وإنما ورَد النهي حيث يَقْدر الرجل على أن يُداوي العِلَّة بدواءٍ آخرَ؛ لأن الكي فيه تعذيبٌ بالنار، ففعْلُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للكي يدلُّ على جوازه، وعدم محبَّته لا يدل على المنْع منه، والثناء على تارِكيه يدلُّ على أنَّ ترْكَه أفضلُ، والنهي عنه لِمَن يعتقد أنَّ الشفاء من الكَي، لا من الله الشافي، كما كان عليه اعتقاد أهْل الجاهلية.

قال ابن حجر: المراد بترْك الرُّقَى والكي: الاعتماد على الله في دفْع الدَّاء والرضا بقَدَره، لا القدْح في جواز ذلك؛ لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة، وعن السلف الصالح، لكنَّ مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب.

فالطب غيرُ قادِح في التوكُّل؛ إذ تَطبَّبَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتَطبَّبَ عِلْيَةُ الفُضَلاء، وكلُّ سببٍ مقطوع به، كالأكْل للغِذاء والشُّرب للريِّ لا يقدَحُ في التوكُّل، وكذلك المظنون، كلُبْس الدِّرع للتَّحصُّن من العَدوِّ غيرُ قادِح في التوكُّل.

[قال ابن حَجَر:] ولا يردُّ على هذا وقوعُ ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً وأمرًا؛ لأنه كان في أعلى مقامات العِرفان ودرجات التوكُّل، فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص ذلك من توكُّله؛ لأنه كان كاملَ التوكُّل يقينًا، فلا يؤثِّر فيه تعاطي الأسباب شيئًا، بخلاف غيره ولو كان كثيرَ التوكُّل، لكنَّ مَن ترَك الأسباب، وفوَّض وأخْلَص في ذلك كان أرفعَ مقامًا.

والحقُّ أنَّ مَن وَثِق بالله وأيْقَن أن قضاءَه عليه ماضٍ، لَم يَقدحْ في توكُّله تعاطِيه الأسبابَ اتِّباعًا لسُنته وسُنة رسوله، فقد ظاهَر - صلى الله عليه وسلم - في الحرب بين دِرْعين، ولَبِس على رأْسه المِغْفَر، وأقْعَد الرُّماة على فمِ الشِّعْب، وخْنَدَق حول المدينة، وأَذِن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجَر هو، وتعاطَى أسباب الأكْل والشرب، وادَّخر لأهْله قوتَهم، ولَم ينتظر أن ينزلَ عليه من السماء، وهو كان أحقَّ الخَلْق أن يحصل له ذلك، وقال الذي سأله: أعْقِل ناقتي أو أدعَها؟ قال: ((اعْقِلها وتوكَّل))، فأشار إلى أنَّ الاحتراز لا يدفع التوكُّل، والله أعلم".

4- التوكُّل على الله:

﴿  {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}  ﴾ [الأنفال: 2]، والتوكُّل: تفويض الأمر إلى الله - تعالى - في ترتيب المسببات على الأسباب؛ أي: أن يكون الاعتماد على الله اعتمادًا صادقًا حقيقيًّا، مع فعْل الأسباب المأذون فيها أو المأمور بها، وكلما جعَل المرء اعتمادَه على الأسباب، نقَصَ توكُّله على الله.

ومَن جعَل اعتمادَه على الله - مُلغِيًا الأسباب - فقد طعَن في حِكمة الله؛ لأن الله جعَل لكل شيءٍ سببًا، وهو حكيم يربط الأسباب بمسبباتها، كمَن يعتمد على الله في حصول الولد، وهو لا يتزوَّج، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعظمُ المتوكِّلين، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب، فالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يأخذ الزادَ في السفر، ولَمَّا خرَج إلى "أُحُد"، ظاهَر بين دِرْعَيْه؛ أي: لَبِس دِرْعين اثنين، ولَمَّا خرَج مهاجرًا، أخَذ مَن يدلُّه على الطريق، وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتقي الحرَّ والبرد، ولَم يُنقِص ذلك من توكُّله شيئًا.

فالضابط في هذه المسالة أن تعرف أن الأخْذ بالأسباب واجبٌ وطاعةٌ لله - تعالى - ولكن مع ترْك الاعتماد عليها، بل الاعتماد على الله وحْده لا شريكَ له في حصول المقصود بعد الأخْذ بالأسباب، وبهذا نتبيَّن تلك القاعدة الجليلة التي ذكَرها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهي: "الالتفات إلى الأسباب شِرْك في التوحيد، ومَحْو الأسباب - أن تكون أسبابًا - نقْصٌ في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكليَّة قدْحٌ في الشرع، وإنما التوكُّل معنى يتألَّف من موجب التوحيد والعقل والشرع ".

أ- التوكُّل مِن أجَلِّ العبادات:

والتوكُّل عِبادة قلبيَّة مِن أجَلِّ العبادات، وقُرْبة من أعظم القُرُبات، وهو فريضة يجب إخلاصُها لله - تعالى - وهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد، وأعظمها وأجَلُّها؛ لِمَا ينشأ عنه من الأعمال الصالحة الخالصة لله ربِّ العالمين.

لذلك أمَر الله به في غير آية من كتابه، بل جعَله شرْطًا في الإيمان والإسلام؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}  ﴾ [المائدة: 23]، وقوله - تعالى - على لسان موسى: ﴿  {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } ﴾ [يونس: 84]، وقال: ﴿ { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ﴾ [إبراهيم: 11].

ب- كفاية المتوكِّل:

فمَن توكَّل على الله الخالق الرازق المحيي والممِيت، ومَن بيده الأمر كله - كفَاه الله؛ كما قال - سبحانه -: ﴿  {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}  ﴾ [الطلاق: 3].

أيُّها الأحبَّة، أتدرون ماذا قال إبراهيم - عليه السلام - حين أُلْقِي في النار، فجعَلَها الله له بردًا وسلامًا؟ روى البخاري عن ابن عباس قال: " ﴿  {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}  ﴾ [آل عمران: 173] قالَها إبراهيم - عليه السلام - حين أُلْقِي في النار، وقالَها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: ﴿ { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}  ﴾ [آل عمران: 173]".

وفي رواية أخرى: كان آخر قول إبراهيم حين أُلْقِي في النار.

أجَل، لن يتخلَّى الله عمَّن فوَّض أمرَه إليه، عمَّن أخْلَص اللجوءَ له والاعتماد عليه، والإنابة إليه.

جـ- صُوَر من الخَلل في التوكُّل:

إنَّ المتأمِّل لحياتنا اليوم يجد صُوَرًا وأمثلةً كثيرة على ضَعْف توكُّلنا على الله، ومن ذلك أن البعض إذا كانت له حاجة دنيويَّة أو معاملة، أو طلَب وظيفة، فتجد أن أوَّل مَن يخطر بباله هو فلان بن فلان، وأنه بيده الأمر، فتجده يتوجَّه إليه ويطلبه، ورُبَّما نافَق له، أو مدَحه، أو رشاه، ونَسِي الله الرزاق الذي بيده كلُّ شيءٍ، وهو على كلِّ شيء قدير.

وإنِ احتاج إلى سلعةٍ ما ولا يَملك ثمنَها، فلا يبالي أنْ يَلجأ إلى الحرام، و"الضرورات تُبيح المحظورات"؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «((لو أنَّكم توكَّلتم على الله حقَّ توكُّله، لرزقَكم كما يَرزق الطَّيْر؛ تغدو خِماصًا، وتَروح بِطانًا))» [رواه الترمذي].

ومن ذلك أنَّ مَن حصَل عنده مرضٌ أو مَرِض له أحدٌ، أو كان عنده ظرفٌ أو كَرْبٌ، فأوَّل مَن يَخطر بباله أهو الله أم الطبيب؟ أم أهو الله أو الدواء؟ أم أهو الله أو المستشفى؟ مَن أوَّل مَن يتوجَّه إليه القلب؟ فتجد أنَّ الواحد يقضي في طلبِ الأمر الأيامَ، ورُبَّما الشهور ورُبَّما الأعوام؛ يسأل هذا، ويطلب من هذا، وقد يتوجَّه إلى المشعوذين الكذَّابين، الذين لا يملكون كشْفَ الضُّر عن أنفسهم، وهنا تسأله: هل دعوتَ الله؟ هل توجَّهت إلى الله؟ هل سألتَ ربَّك قضاءَ هذه الحاجة؟ ﴿  {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}  ﴾ [النمل: 62].

إنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي بيده كلُّ شيءٍ وهو على كلِّ شيء قدير.

ولستُ بهذا أقصد منْعَ الشفاعات، أو تحريم تفريج الكُربات، أو منْع التداوي والأخْذ بالأسباب، بل قد يؤجَر صاحب الشفاعة، ولا يأْثم السائل، لكنَّ المراد هنا هو الحذَر من الْتِفات القلب إلى غير الله، وإن كان الأكمل هو ترْكَ السؤال؛ كما بايَع على ذلك الصحابة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فالواجب على العبد أن يفعلَ السبب ثم ينساه، ولا يلتفت إليه، ويفوِّض أمرَه إلى الله - تعالى - ويعتمد على ربِّه وخالِقه.

وأن يعلمَ العبد أن البشر - مَهْمَا بلغوا من العُلوِّ في المجال الدنيوي، ومهما مَلكوا من الأسباب - أنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يُقدِّمون ولا يؤخِّرون، وأنْ ليس بيدهم شيءٌ، وليس لهم من الأمر شيءٌ، وأن يتذكَّر وصيَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للغلام: (( «واعْلَمْ أنَّ الأمة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ، لَم ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتَبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرُّوك، لَم يضرُّوك إلاَّ بشيء قد كتَبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجَفَّت الصُّحُف» ))، نعم هذا هو التوكُّل، وهذه هي حقيقة التوحيد.

د- التوكُّل من أعظم أسباب النصر:

إنَّ الواجب على المسلمين جميعًا أن يعتمدوا على الله في كلِّ شيء، وأن يتوكَّلوا عليه في أمورهم كلِّها، وأن يُخلصوا له العبادة، وإن كان المسلمون مطالبين بذلك في كلِّ وقتٍ، فهم في هذا الزمان مطالبون به كثيرًا، فعلينا في هذه الأيام أن نعودَ إلى الله، وأن نتوكَّل عليه في وقت نرى أُمَمَ الكفر قد أحاطتْ بالمسلمين، وظهَر حِقْدُ اليهوديَّة والنصرانيَّة والصليبيَّة، وأصبح كثيرٌ من ضِعاف الإيمان، ومنافقي الأُمَّة في خوفٍ ووَجَلٍ عظيم من رؤوس الكفر، ونَسِي أولئك أن الأمرَ بيد الله، وأنه هو الذي نصَر عبده، وأنجَز وعْده، وهزَم الأحزاب وحْده، فهو الذي: ﴿ { أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } ﴾ [النجم: 50 - 53].

فلا إله إلا الله؛ إنَّ الله ليس بعاجزٍ عن نصْر عباده المؤمنين وأوليائه المتقين، ولكنَّ نصْرَه قد يتأخَّر بسبب ذنوبنا وتقصيرنا، وحتى يظهر الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق؛ يقول الله - تعالى - في كتابه: ﴿  {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } ﴾ [الأحزاب: 22].

وأمَّا أهل النفاق ومرْضى القلوب، فاسمع ماذا يقولون: ﴿  {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}  ﴾ [الأحزاب: 12].

فقد يُبطئ النصر؛ حتى تجرِّبَ الأمة المؤمنة آخِرَ قُوَاها، فتُدرك أنَّ هذه القوى وحْدها دون سندٍ من الله وعوْنٍ منه، لا تكفل النصر، إنما يتنزَّل النصر من عند الله، عندما تبذُل الأمة آخِرَ ما في طوْقها، ثم تكِلُ الأمرَ بعد ذلك إلى الله؛ ﴿  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ﴾ [محمد: 7]، ﴿  {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } ﴾ [آل عمران: 126].

وإذا كان النصر والتمكين جزاءَ الأُمَّة المتوكِّلة على الله في الدنيا، فلتنتظر وعْدَ الله في الآخرة؛ لعلها تكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وقد ثبَت في مسلم أنهم يجتازون الصراط؛ (( «فتنجو أوَّلُ زُمرة وجوههم كالقمر ليلة البدْر، سبعون ألفًا لا يُحاسبون» ))؛ [رواه مسلم] .

أسأل اللهَ العَلي الكبير أنْ يجعلنا وإيَّاكم منهم، والحمد لله ربِّ العالمين.

د محمد بديع موسى

  • 6
  • 0
  • 1,561

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً