من جوامع الكلم

منذ 2022-10-31

إنَّ الجنة والنار محجوبتان بالمكارِه والشهوات، فمَن هتَك الحجابَ وصَل إلى المحجوب، فهَتْكُ حجاب الجَنَّة باقتحام المكارِه، وهَتْكُ حجابِ النار بارتكاب الشهوات المحرَّمة...

الحمدُ لله هادي الورَى طرقَ الهُدى، وزاجِرهم عن أسباب التهلكة والرَّدَى، وصلاتُه وسلامُه على عباده الذين اصطفَى؛ من ملَك ونبيٍّ مرتضى، وعبدٍ صالح اتَّبع ما شرعه فاهتدى.

 

وإيَّاه نسأل بمنِّه وفضله أن ينفعَنا بالعِلم وأن يجعلَنا من أهله، وأن يُوفِّقنا للعمل بما علمنا، وتعلُّم ما جَهِلنا، وإليه نرغَب في أن يُعيذنا من اتِّباع الهوى، ورُكوب ما لا يرتضي، وأن نشْرَع في دِينه ما لم يَشْرع، أو أن نقول عليه ما لم يصحَّ أو يسمع، وأن يعصمَنا في الأقوال والأفعال مِن تزيين الشيطان لنا سوءَ الأعمال، وأن يقيَنا زَلَّة العالِم، وأن يُبصِّرنا بعيوبنا، فما خَلْق من العيب بسالِم، وأن يُرشِدنا لقَبول نُصح الناصِح، وسلوك الطريق الواضِح، فما أسعدَ مَن ذُكِّر فتذكَّر، وبُصر بعيوبه فتبصَّر.

 

وصلَّى الله على مَن بعثَه بالدِّين القويم، والصِّراط المستقيم، فأكمل به الدِّين، وأوضح به الحقَّ المستبين، محمَّد بن عبدالله أبي القاسم المصطفى الأمين، صلاةُ الله وسلامه عليه وعلى آله وصحْبه أجمعين، ورضِي الله عن الأئمَّة التابعين، والعلماء مِن بعدهم العاملين، الذين بلَغوا إلينا سُنَّته، وشرَحوا لنا هْديَه وطريقته، وأصَّلوا لنا أصولاً نرجع إليها فيما أشكل علينا، ونستضيء بها ما استبهم علينا، وميَّزوا ما نقَلوا إلينا عنه من بين ما يجِب الرُّجوع إليه مِن ذلك وما يطرح، وما يُوضَع عليه مما قد تبيَّن أمره واتَّضح، فالواجبُ على العالِم فيما يرد عليه مِن الوقائع، وما يسأل عنه مِن الشَّرائع، الرجوعُ إلى ما دلَّ عليه كتاب الله المنزَّل، وما صحَّ عن نبيِّه المرسَل، وما كان عليه الصحابة ومَن بعدهم مِن الصَّدْر الأول.

أما بعد:

فجَوامع كَلِم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هي كلامُ النبيِّ الذي يحوي معانيَ جمَّةً، وفضائلَ لا تقع تحتَ الحصر، ومُثُلاً لا يَطالُها الوصف، كل ذلك يُعبَّر به بواسطة مجموعةٍ قليلة مِن الألفاظ القاطِعة المانعة، ومِن هنا عمدتُ إلى عرْض بعضِ هذه الجوامِع مع شرْحها.

 

أولاً:

قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «حُجِبَت النار بالشهوات، وحُجِبَت الجنة بالمكارِه»؛ (رواية البخاري).

«حُفَّتِ الجنَّة بالمكارِه، وحُفَّتِ النار بالشهوات»؛ (رواية مسلم، والترمذي، وأحمد، والدارمي).

 

الحديث على قِلَّة كلماته، إلا أنَّه يحوي معانيَ ودلالاتٍ جمَّةً وعظيمة، منها:

أنَّ الجنَّة لا يُتوصَّل إليها إلا بقطع مفاوز المكارِه، والنَّار لا يُنْجَى منها إلا بترْك الشهوات، وفي رِواية البخاري (حُجِبَت)؛ أي: إنَّ الجنة والنار محجوبتان بالمكارِه والشهوات، فمَن هتَك الحجابَ وصَل إلى المحجوب، فهَتْكُ حجاب الجَنَّة باقتحام المكارِه، وهَتْكُ حجابِ النار بارتكاب الشهوات المحرَّمة؛ يقول المناويُّ في "فتح القدير": "وحُجِبت الجَنَّة بالمكارِه؛ أي: بما أُمِر المكلَّف بمجاهدة نفْسه فيه فعلاً وترْكًا؛ كالإتيان بالعِبادة على وجهِها، والمحافظة عليها، وتجنُّب المنهي قولاً وفعلاً، وأُطْلِقَ عليها مكاره؛ لمشقَّتها وصُعوبتها على العامِل، فلا يصِل إلى النار إلاَّ بتعاطِي الشهوات، ولا إلى الجَنَّة إلا بارْتكاب المشقَّات المعبَّر عنها بالمكروهات، وهما محجوبتان، فمَن هتَك الحجاب، اقتحَم".

 

وبذلك يدخُل في المكاره كلُّ أنواع العبادات والطاعات، والمواظَبة عليها، والصَّبر على مشاقِّها، وكظْم الغيظ والعفو والحِلم، والصَّدقة والإحسان إلى المسيء، والصبر على الشهوات ونحو ذلك، وأمَّا الشهوات التي حُفَّت بها النار، فيدخُل فيها كل الشهوات المحرَّمة، كالخمر، والزِّنا، والنظر إلى الأجنبيَّة، والغِيبة...إلخ، أما الشهوات المباحَة، فبِخلاف ذلك؛ يقول النوويُّ:

"وأمَّا الشهوات المباحَة، فلا تدخُل في هذه، لكن يُكرَه الإكثارُ منها؛ مخافةَ أن يجرَّ إلى المحرَّمة، أو يُقسِّي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يُحوِج إلى الاعتناء بتحصيل الدُّنيا".

 

ثانيًا:

قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَطْلُ الغَنيِّ ظُلْمٌ...»؛ (أخرجه البخاري ومسلم، والترمذي والنسائي وابن ماجه، ومالك في الموطأ).

 

المطْل: منْع أداءِ ما استُحِقَّ أداؤه، وفي قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «مَطْلُ الغَني» منتهَى البلاغة والفصاحة وجَزالة الألفاظ، والوصول بالألفاظِ القليلة إلى معانٍ كثيرة عظيمة، فالحديثُ منَع من أنْ يأكلَ الناس - أغنياء وفقراء - حقوقَ بعضهم البعض، فهذا التركيب - كما يقول ابن حجر - يحتمل أن يكونَ مِن إضافة المصدر إلى فاعله، فيكون الظلم واقعًا مِن الغنيِّ القادر على ردِّ الحقوق إلى أهلها ولا يفعل، وإمَّا أن يكون مِن إضافة المصدر إلى مفعوله، وإذ ذاك يكون الظلم واقعًا ممَّن يُماطِل الأغنياء، ولا يُعطيهم حقوقَهم؛ ظنًّا منه أنَّهم لا يحتاجون ما عنده، فيتهاون في ردِّ حقوقهم.

 

ثالثًا:

قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «نِعْمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ مِن الناس: الصحَّة، والفَراغ»؛ (أخرجه البخاري، والترمذي، وابن ماجه).

 

ولا أجِد كلامًا أفضلَ للتعقيب على هذا الحديث مِن قول ابن الجوزي، حيث قال في تعليقه على هذا الحديث: "قدْ يكون الإنسانُ صحيحًا ولا يكون متفرِّغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعَا فغلَب عليه الكسلُ عنِ الطاعة، فهو المغبون، وتمام ذلك الدُّنيا مزرعةُ الآخِرة، وفيها التجارة التي يظهر ربْحُها في الآخِرة، فمَن استعمل فراغَه وصحَّته في طاعة الله، فهو الرابِح، ومَن استعملَها في معصية الله، فهو المغبون؛ لأنَّ الفراغ يَعقبه الشُّغل، والصحَّة يَعقبها السقم...".

 

وقال الطِّيبي أيضًا: "ضرَبَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - للمكلَّف مثلاً بالتاجِر الذي له رأسُ مال، فهو يَبتغي الرِّبْح مع سلامةِ رأس المال، فطريقُه في ذلك أن يتحرَّى فيمَن يعامله، ويلزم الصِّدق والحِذق؛ لئلا يُغْبَن، فالصحَّة والفَراغ رأس المال، ويَنبغي له أن يعامِل الله بالإيمان ومُجاهَدة النَّفْس وعَدوِّ الدِّين؛ ليربحَ خَيْرَي الدنيا والآخِرة"؛ انظر: "فتح الباري" ابن حجر.

_____________________________________________________

الكاتب: محمود حسن عمر

  • 3
  • 0
  • 1,033

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً