محطات وزن الأفكار!
هل يعني إغفال مصطلح "القومية" التخلي عن العربية بكل ما فيها من خير نافع؟ كانت هذه ردة فعل لدى البعض من أبناء العرب، نصبوا من أنفسهم حماة لكل ما هو غير عربي...
- التصنيفات: - ثقافة ومعرفة -
ما الذي تعنيه الكلمة "العربية"؟ هل المقصود هنا مجموعة من الأفراد رجالًا ونساءً يتحدثون العربية؟ هل المقصود مجموعة من الأفراد رجالًا ونساءً يلتقون في مقومات عدة منبعها المنطقة العربية؟ يبدو أننا تخطينا مرحلة ما يسمى بالقومية العربية التي ظهرت واضحة الدعوة إليها في السبعينيات والثمانينيات الهجرية/ الخمسينيات والستينيات الميلادية، أصبح البعض يخجل الآن عندما يتحدث عن القومية بمفهومها السابق، وإن كانت كثير من المطبوعات العربية تتحدث عن هذا المصطلح دون وعي لمدلولاته، فتذكر كلمة "القومية" عندما تريد الحديث عن الوطنية، وهناك المراكز والمعاهد والمؤسسات الوطنية التي تحمل اسم القومية، مثل: المركز القومي للتوثيق، والمعهد القومي، والمؤسسة القومية، ويراد بها ما يخدم الوطن ولا يخرج عنه إلا على سبيل التعاون، وقد تنبهت الجامعة العربية لهذا المصطلح وعدم جدوى ذكره، فكان هناك معهد المخطوطات العربية (وليس القومية) المنبثق عن المنظمة العربية (وليس القومية) للتربية والثقافة والعلوم، وهناك العديد من المؤسسات العلمية التابعة للجامعة العربية أغفلت هذا المصطلح.
وهل يعني إغفال مصطلح "القومية" التخلي عن العربية بكل ما فيها من خير نافع؟ كانت هذه ردة فعل لدى البعض من أبناء العرب، نصبوا من أنفسهم حماة لكل ما هو غير عربي، وإن لم يعلنوا موقفهم السلبي الواضح من القومية العربية، ومما هو عربي، فترى الاستيراد واضحًا فيهم ولديهم، فالحياة عندهم لا تختلف عن الحياة في مجتمع آخر غير عربي، وغالبًا في مجتمعات متقدمة، وليس الحديث هنا من السطحية بحيث يعطي أمثلة للممارسات الشخصية في العادات والتصرفات، فتلكم عادات مستهجنة، ولكنها لا تبني عن خلفية قوية في الدعوة إلى كل ما هو غير عربي، فعندما نرى رجلًا قد حشى غليونه بالتبغ وصار ينفث منه الدخان وحمل معه "العدة" ينقلها من مكتب إلى آخر ومن مجلس إلى آخر لا نرى فيه خطرًا؛ لأنه استورد الغليون بدلًا من لفافة التبغ؛ إذ إن كليهما مستورد في الأصل، والخطر منهما مشترك، ويعود بالدرجة الأولى على الفرد قبل أن يعود الخطر على المجتمع.
ولعل الحديث هنا فيه شيء من العمق عندما ينصب الاستيراد على الأفكار، فيتبنى البعض فكرًا أو فكرة، كل ما فيها أنها مخالفة لما قام عليه المجتمع العربي منذ أن كان للمجتمع العربي كيان متكامل صار يحمل فكرًا بعد حرب البسوس وداحس والغبراء؛ إذ إن حرب البسوس لم تكن لتحمل فكرًا تدافع عنه، وكذا الحرب الثانية، وليسا مقياسًا للعقل العربي، ولكننا نتحدث عن هذا العقل عندما أصبح يحمل رسالة اهتزت لها أرجاء الأرض اهتزازًا، ومعها بدأت المؤامرة العالمية الكبرى على هذه الرسالة، لا لشيء إلا لأنها تهدد الأطماع الشخصية، وتقوض الإمبراطوريات التي قامت على استعباد البشر، والاستيلاء على خيراتهم، هي بكل هذه البساطة، وإن لم تكن بكل هذه السطحية، ولا نحتاج إلى الطلاسم والرموز في سبيل أن يقبل منا هذا الكلام، فقد عودتنا هذه الرسالة السامية أن نكون بسطاء، ولكنها عودتنا في الوقت نفسه ألا نكون سذجًا نطأطئ الرأس لكل شيء، وعليه فإننا لا بد أن نقف موقف الحذر لكل ما هو مستورد، لا بد أن نقيم محطات للوزن، نزن فيها الأفكار، كما تقام محطات وزن الشاحنات على الطرقات البرية، فما لا يناسبنا من أفكار نقف دونه، نحول دون أن يكون له شأن بيننا، وليس أشخاصًا أولئكم الذين يحددون سلامة الأفكار من عدم سلامتها، إنه المنهجُ الذي يوضع في كل محطة وزن للأفكار، فما ناسبه يقبل، وما لا يتعارض معه يقبل، وما يهدد كيان هذا المنهج يرد وبكل وضوح، أرأيتم هنا أننا نقبل نوعين من الأفكار لا نوعًا واحدًا، نقبل من الأفكار ما يناسب منهجنا وما لا يتعارض معه، ونرد فقط ما يهدد كيان المنهج، وعليه فلا غرابة أن نقف من المستورد هذا الموقف الحازم الذي جعل كثيرًا ممن ساروا وراءه يعيدون النظر في سيرهم ويتوقفون للحظات، يزِنون أفكار هذا المستورد بميزان المنهج، فيجدون أنه يهدد كيان المنهج، فيتوبون عنه ويقلعون ويحاولون "التكفير" عما انزلقوا فيه وما آلوا إليه من التيه الفكري، ولا يزال آخرون يصرون على المستورد، ولا تزال طائفة منهم تستورد، ويقف الآخرون وقفات علمية وثائقية صادقة يبينون للمجتمع من هذا الفكر المستورد، فيكون الإقناع قويًّا؛ لأن الوقفات كانت علمية، ولا يهمنا هنا المصطلحات التي يدور حولها هذا الحديث؛ إذ إن من الأزمة الفكرية التي يعيشها المجتمع العربي عدم قدرته الآن على استيعاب المصطلحات، وعدم الوضوح الشامل للفكر المراد وراء هذه المصطلحات، فهناك مصطلحات التراث والمعاصرة والأصالة والحداثة والرجعية والتجديد، وغيرها من المصطلحات التي توحي بأن هناك صراعًا عنيفًا في الفكر العربي، ولعله كان وليد الجمود الفكري الذي مرت به الأمة العربية إثر الهيمنة الاستعمارية وقبل هذه النهضة العلمية التي تعم البلاد العربية دون استثناء.
وعلينا أن نكون بسطاء مع أنفسنا ومع الآخرين، فنقر أن الفكرة تبقى هي الفكرة، فلا تتغير عندما نلبسها ثوبًا غير ثوبها الذي بيعت فيه، وقديمًا عندما كانوا يتحدثون عن الاشتراكية قالوا: إنها اشتراكية عربية لا تخرج عن الإطار الإسلامي (!)، وجعلوا من قادة وزعماء الفكر العربي والإسلامي اشتراكيين، ولكن لأن الفكرة لم تتغير لم يناسبها الثوب العربي، وهكذا مع بقية الأفكار الأخرى، والذين يتحدثون الآن عن فكرة المعاصرة أو الحداثة على أنها حداثة عربية - أو إسلامية في حدود الشريعة (!) - فإنهم يحاولون أن يلبسوا هذا الاتجاه الثوب العربي، ولكنه لا يناسب ولن يناسب، رغم كثرة المفصلين، وليس أدل على عدم مناسبته ما يتردد أحيانًا من إنتاج في هذا الاتجاه إنما هو إساءة لكل ما هو عربي إسلامي يقع فيه البعض مبطنًا بالرموز والطلاسم، فيوزن هذا الإنتاج بميزان المنهج فيتضح فيه الاتجاه الذي يهدد كيان المنهج الذي نسير عليه وتسير عليه بقية الأمة.
ولا يضير في الوقت الراهن أن تكون الساحة الفكرية قد أوقفت في معظمها على هذا الاتجاه الفكري أو ذاك مما يتعارض مع المنهج، فتلكم فترة "تتخمر" فيها الأفكار، ولا تلبث أن تتضح للآخرين من خلال التوضيح "البسيط" لما يدور في الساحة من خلال الغوص في عمق الفكرة نفسها للتعرف على مبعثها أولًا، ودوافعها ثانيًا، وأهدافها ثالثًا، ثم أشهر من يتبنونها ومن يروجون لها عالميًّا على اعتبار أنها فكرة عالمية، وليس محليًّا على اعتبار أننا نعتقد أن المروجين لها محليًّا ليسوا - أكثرهم - يدركون ما تريد الوصول إليه، بدليل "تبطينهم" لها بالمحلية أو بالصبغة المنهجية التي تتناقض معها أو تناقضها، ولأننا نعيش في مجتمع واضح الفكرة تطبق فيه تعاليم المنهج في مستوى شامل، لا أستبعد رجوع الكثيرين من المحليين عن فكرة المعاصرة أو الحداثة بمفهومها الفكري الذي يسيطر على الساحة الفكرية الآن، لا بمفهومها اللغوي الذي لا يناقض المنهج الإسلامي، ولا يتعارض معه، ومصطفى هدارة يفرق بين المعاصرة والحداثة؛ ذلك أن المنهج الرباني لا يقف ضد المعاصرة أو الحداثة هكذا، ولكنه سيقف في طريق المفهوم الفكري لهذين المصطلحين لما يدعوان إليه من نبذ كل ما هو قديم أو أصيل أو تراثي بما فيه المنهج نفسه، وحينما يطلق على هذا المنهج عبارة توحي بالتقييد والتعقيد والسجن وغيرها من الألفاظ السلبية التي لا تليق بالمنهج؛ لأنها لا تنطبق عليه.
والموقف من العربية لا يتوقع منه أن يأخذ منحى السبعينيات والثمانينيات الهجرية/ الخمسينيات والستينيات الميلادية، ولا يتوقع منه أن يأخذ منحى العشرات والعشرينيات الهجرية/ الثمانينيات والتسعينيات الميلادية - إن صح أن يسمى هذا منحى - ولكن الأولى أن ينظر إلى العربية لغة وأمة وفكرًا على أنها تخدم منهجًا شاملًا هو البديل الوحيد لكل منهج موجود أو زائل أو سيوجد، وعليه فإذا التمس المرء العذر للآخرين الذين لم يعثروا على هذا المنهج أو عثروا عليه فهدد مصالحهم الشخصية، فإنه لا عذر لأولئك الذين يعيشون في المنهج ويتبعدون عنه، فإن كان هناك أزمةُ فَهمٍ فلا بأس من أن يمضي المرء وقتًا ليفهم، لكن أن يناصب المنهج العداء لأنه يجهله، أو لأنه يعيشه من خلال أفراد أساؤوا تطبيقه وتقديمه للآخرين - فهذا أمرٌ يحتاج إلى شيء من إعادة التفكير، ولأنني أعلم أن فكرة المعاصرة والحداثة لم تتبلور بعد، وأن هناك مجموعة غير قليلة ممن يميلون إليهما لا يدركونهما تمامًا، وأن هناك مجموعة غير قليلة ممن يقفون ضدهما يقفون وقفات عاطفية، وأن الذين يميلون إليهما - في معظمهم - سيعودون عنهما عندما يتضحان؛ لأنني أكاد أعلم هذا - أجدني هنا أدعو إلى مزيد من الحوار الهادئ البناء، تتاح فيه الفرصة للكل دون أن يكون اتجاه المجال مفتوحًا على حساب الاتجاه الآخر، كما حدث في بعض اللقاءات الفكرية والأدبية السابقة، وكان الله في عون الجميع.
___________________________________________________
الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة