صاحب البصيرة
إذا عرف العبدُ عِزَّ سيدِه ولاحظَ بقلبِهِ، وتمكَّنَ شهودُهُ مِنْهُ، كان الاشتغالُ بهِ عن ذُلِّ المَعصيةِ أولى بهِ وأنفعَ له؛ لأِنَّهُ يَصِيرُ مَعَ اللهِ لا مَعَ نَفْسِهِ...
- التصنيفات: الطريق إلى الله -
اعلَمْ أنَّ صَاحِبَ البصِيرةِ إذا صَدَرَتْ منه الخَطِيئةُ فلهُ نَظَرٌ إلى أُمور:
أحدها: أنْ ينظرَ إلى أمرِ اللهِ ونَهْيِهِ فيُحْدِثَ له ذلك الاعترافَ بكونِهَا خَطِيئَةً، والإِقْرَارَ على نفسِه بالذَنْب.
والثاني: أنْ ينظرَ إلى الوعدِ والوعيدِ، فيُحِدَث له ذَلِكَ خوفًا وخشْيةً تحْمِلُهُ على التوبةِ.
والثالثُ: أَنْ يَنْظُرَ إلى تَمْكِينِ اللهِ لَهُ مِنهَا وَتَخْلِيَتِهِ بَيْنَه وَبَيْنَها وَتَقْدِيرِها عليه، وأنه لو شاء لَعَصَمَهُ مِنْهَا فَيُحْدثَ له ذلك أنواعًا مِنَ المعرفِة باللهِ وأسمائِهِ وصِفَاتِهِ وحِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ وعَفوِهِ وحِلمِهِ وكرمِهِ، وتوجبُ له هذه المعرفةُ عُبوديةً بهذه الأسماءِ لا تحصُلُ بِدُونِ لَوَازِمِهَا البَتَّةَ، وَيَعْلَمُ ارتباطَ الخلق والأمرِ والجزاءِ والوعْدِ والوعيدِ بأسمائِهِ وصِفَاتِهِ، وأنَّ ذلك بموجبِ الأسماءِ والصفاتِ وأثرها في الوجودِ، وأنَّ كلَ اسم وصِفةٍ مُقْتَضٍ لأثَرهِ وَمُوجِبه مُتَعَلِّقٌ بِهِ لا بُدَّ منه.
وَهَذَا المَشْهَدُ يُطْلِعُه على رِياضٍ مُونِقَةٍ مِن المَعَارِفِ والإيمانِ وأسْرَارِ القَدَرِ والحِكمَةِ يَضِيقُ عن التعبيرِ عنها نِطاقُ الكَلِمِ فَمِنْ بَعضِهَا ما ذكره الشيخُ - (يُريدُ صاحِبَ المنازلِ) -: أنْ يَعْرِفَ العبدُ عِزَّتَهُ في قَضَائِهِ وَهُوُ أنَّهُ سُبْحَانَهُ العَزِيز الذي يَقْضِي بما يشاءُ وأنه لِكمالِ عزتِهِ حَكَمَ على العبدِ وقضى عليهِ بأنْ قلبَ قَلْبَه وصرَّفَ إرَادَتَه على ما يَشَاءُ وحالَ بين العَبْدِ وقلبِه وَجَعَلَهُ مُريدًا شائِيًا لِمَا شَاءَ مِنْهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ وهذا مِنْ كَمالِ العِزَّةِ، إذْ لا يَقْدِرُ عَلى ذلِكَ إلا اللهُ وغايةُ المَخْلُوقِ أَنْ يَتَصَرَّفَ في بَدَنِكَ وظاهِرِكَ، وأمَّا جَعْلُكَ مُرِيدًا شائيًا لِمَا يَشَاؤُهُ مِنْكَ وَيُرِيدُهُ فلا يَقْدرُ عليهِ إلا ذُو العِزَّةِ البَاهِرَةِ.
فإذا عرف العبدُ عِزَّ سيدِه ولاحظَ بقلبِهِ، وتمكَّنَ شهودُهُ مِنْهُ، كان الاشتغالُ بهِ عن ذُلِّ المَعصيةِ أولى بهِ وأنفعَ له؛ لأِنَّهُ يَصِيرُ مَعَ اللهِ لا مَعَ نَفْسِهِ، ومِنْ مَعْرِفِة عِزتِهِ في قَضَائِهِ أنْ يَعْرِفَ أنه مُدَبَّر مَقْهُورٌ ناصيتُهُ بِيدِ غيرِهِ لا عِصْمَةَ لَه إلا بِعِصْمَتِهِ ولا تَوفيقَ له إِلا بِمَعُونَتِهِ، فهُوَ ذَليلٌ حقير في قبضةِ عَزيزٍ حميدٍ.
وَمِنْ شُهودِ عزَّتِهِ في قَضَائِهِ أنْ يَشْهَدَ أنَّ الكَمَالَ والحَمْدَ والغِنَى التامَّ والعزةَ كلهَا لِلهِ وأنَّ العَبْدَ نَفْسَه أوْلى بالتقصيرِ والذمِ والعَيبِ والظُلمِ والحَاجةِ وكُلَّمَا ازدادَ شُهودُهُ لِذُلّهِ وَنَقْصِهِ وَعَيْبِهِ وَفَقْرِهِ ازدادَ شهودُه لِعزَّةِ اللهِ وَكَمالِه وَحَمْدِه وَغِنَاهُ وكذلك بالعكسِ فنقْصُ الذنْبِ وذِلتُه يُطْلعُه على مَشْهَدِ العِزّةِ.
ومنها: أن العبدَ لا يُريدُ مَعْصِيَةَ مَوْلاهُ مِنْ حَيثُ هِيَ مَعْصِيةٌ فإذا شَهِدَ جَرَيَانَ الحُكْمِ وَجَعْلَهُ فَاعلاً لِمَا هُوَ مُختارٌ له، مُرِيدًا بإرَادتِهِ وَمَشيئِتِه واختيارِه، فكأنَهُ مُخْتَارٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ مُرِيدٌ شاءٍ غيرُ شاءٍ، فهذا يَشْهَدُ عِزةَ اللهِ وعَظَمَتَه وكَمَالَ قُدْرَتِهِ.
شعرًا:
أَحْسِنْ بربِّك ظَنًا إنَّهُ أَبَـــــدًا *** يَكْفي المُهِمَّ إِذا مَا عَزَّ أَوْ نابًا
لا تَيأَسَنَّ لِبَابٍ سُدَّ في طَلَبٍ *** فالله يَفْتَحُ بَعْدَ البَابِ أَبْوابًا
ومِنْ ذلك أن يَعرفَ بِرَّهُ سبحانَه في سَتْرِهِ عليهِ حالَ ارتكابِ المعصيةِ معَ كمالِ رؤيتِهِ لهُ ولو شاء لَفَضَحَهُ بينَ خَلْقِهِ فَحَذِرُوه، وهذا مِن كمالِ بِرِّهِ ومِنْ أسمائِه البَرُّ، وهذا البرُّ من سيدِهِ كان عن كمالِ غِنَاهُ وَكمالِ فقْرِ العبدِ إليهِ، فيشتغلُ بمطالعَةِ هذه المِنةَ وَمُشَاهَدَةِ هَذَا البِرِّ والإحسانِ والكرم، فيَذهَلُ عن ذِكرِ الخَطِيئَةِ، فَيَبْقَى مَعَ اللهِ سبحانه وذلك أَنْفَعُ لهُ مِن الاشتغالِ بجنايَتِهِ وَشُهُودِ ذُلِّ المَعْصِيَةِ، فإنَّ الاشْتِغَالَ باللهِ والغَفْلةَ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ المَطْلَبُ الأعلى والمقصَد الأسْنَى.
ومنها: شُهودُ حِلْمِ اللهِ سبحانه وتعالى في إمْهَالِ رَاكِبِ الخَطِيئَةِ مُطْلقًا ولو شاءَ لَعاجَلَه بالعُقُوبَةِ ولكِنه الحَلِيمُ الذي لا يَعْجَلُ فَيُحْدِثُ له ذلك مَعْرِفةَ رَبِهِ سبحانه باسْمِهِ الحليمِ ومُشَاهَدَةَ صفةِ الحِلْمِ والتَّعَبُدِ بهذا الاسمِ. والحكمة والمصلحةُ الحاصلة ومن ذلك بتوسّطِ الذَنْبِ أحبُّ إلى اللهِ وأصلحُ للعبدِ وأنفَعُ من فَوْتِها، ووجودُ الملزومِ بدونِ لازمِهِ مُمْتَنِعٌ ومنها مَعْرِفَةُ العَبْدِ كَرَمَ رَبِهِ في قُبولِ العذرِ منه إذا اعتذرَ إليهِ بنحْوِ ما تقدم مِن الاعتذارِ لا بالقَدَرِ فإنه مخاصَمَتُه وَمُحَاجّة.
ومنها: أنْ يَشهدَ فضلَهُ في مَغفرتِهِ فإن المَغْفِرَةَ فضْلٌ مِن اللهِ وإلا فَلَو أَخَذَ بمحْض حَقِّهِ كان عادِلاً مَحْمُودًا.
وإِنَّمَا عَفْوُهُ بِفَضْلِهِ لا باسْتِحْقاقِكَ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ شُكرًا وَمَحَبةً وإنابَةً إليه وفَرَحًا وابْتِهَاجًا بِهِ ومَعْرِفَةً لَهُ باسْمِهِ الغَفَّارِ، وَمُشَاهَدَةً لِهَذِهِ الصِّفَةِ وَتَعَبُّدًا بِمُقْتضَاهَا، وَذَلِكَ أَكْمَل ُفي العُبُودِيَّةِ والمَحَبَّةِ والمَعْرِفَة.
وَمِنْهَا: أَنْ يُكْمِلَ لِعبدِهِ مَرْتَبَةَ الذُلِ والخُضُوعِ والانْكِسَارِ بَينَ يَدَيْهِ والافتقارِ إِليه.
إِنِّ الشَّرَائِعَ أَلْقَتْ بَيْنَنَا حِكَمًــــا *** وَأَوْرَثَتَنَا أَفَانِينَ المُـــــوَدَّاتِ
وَهَلْ رَأيْتَ كَمِثْلِ الدِّينِ مَنْفَعَةً *** لِلْعَبْدِ تُوصِلُهُ أَعْلَى الكَرَامَاتِ
اللَّهُمَّ أَيْقظَ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَان وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا، وَارْزُقْنَا الْمَعْرفَةَ بكَ عَنْ بَصِيرَةً، وَأَلْهِمَنَا ذِكْرَكَ وَشُكْركَ، وَوَفّقْنَا لِطَاعَتِكَ وامْتِثَالِ أَمْرِك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
___________________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالعزيز السلمان