رأفة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمته
إن النبي ﷺ سخَّر حياته كلها من أجلنا، عاش عمره كله من أجل كل مسلم يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، عمِل ﷺ جاهدًا من أجل أن يخفف عـن أمته، وسلك ﷺ كـل طريـق يـؤدي إلى التخفيــف واليسـر على الناس...
- التصنيفات: محبة النبي صلى الله عليه وسلم -
إن أعظمَ رحمةٍ حظيَتْ بها البشرية من ربها إرسال نبي الرحمة والهدى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقال سبحانه تعالى مبينًا هذه النعمة، وممتنًّا على عباده بها:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فما من مخلوق على هذه الأرض إلا وقد نال حظًّا من هذه الرحمة المهداة.
قال ابن عباس رضي الله عنه، وهو يفسر هذه الآية: "وهو أن الله أرسل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمةً لجميع العالم؛ مؤمنهم، وكافرهم؛ فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به وبالعمل بما جاء من عند الله الجنةَ، وأما كافرهم، فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله"[1].
ووصف الله سبحانه وتعالى نبيه العظيم صلى الله عليه وسلم بوصف عظيم؛ فقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وصفه ربه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]؛ أي: شديد الرأفة والرحمة بكم - أيها المؤمنون - والرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرر، والرحمة عبارة عن السعي في إيصال النفع، فهو صلى الله عليه وسلم يسعى بشدة في إيصال الخير والنفع للمؤمنين، وفي إزالة كل مكروه عنهم.
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: "قال الحسين بن الفضل: لم يجمع الله لأحدٍ من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قال عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال عن ذاته سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65]"[2].
مدحتك آيات الكتاب فما عسى *** يثني على علياك نظم مديحي
وإذا كتاب الله أثنى مفصحًـــــا *** كان القصور قُصار كل فصيـحِ
فيا من هديتم بالنبي محمــــــد *** سيروا بهديِ نبيكم تعظيمــــا
وإذا سمعتم ذكره في مجلـــس *** صلوا عليه وسلموا تسليمـــــا
أيها المسلم الكريم: إن النبي صلى الله عليه وسلم سخَّر حياته كلها من أجلنا، عاش عمره كله من أجل كل مسلم يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، عمِل صلى الله عليه وسلم جاهدًا من أجل أن يخفف عـن أمته، وسلك صلى الله عليه وسلم كـل طريـق يـؤدي إلى التخفيــف واليسـر على الناس؛ فعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يسِّروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» [3]، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه» [4] ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» [5].
بل إن الله تعالى رفع الإصر والأغلال عن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
كانت هناك بعض الشرائع الشديدة والتكاليف الشاقة مفروضة على بني إسرائيل، قد وضعها الله عن هذه الأمة، ولم يشرعها في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ كرامة له ولأمته؛ ومن هذه التكاليف:
أولًا: كان إذا أصاب النجس ثوب أحدهم قرضه بالمقراض، فلا يطهر إلا بذلك، هذه هي طريقة تطهير النجاسات في حقهم؛ كما ورد في البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كان يشدد في البول، ويقول: ((إن بني إسرائيل كان إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه))[6]، فهذه هي طريقة تطهير النجاسات في حقهم، أما نحن - أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم - فنكتفي بغسله بالماء فيكون طاهرًا.
ثانيًا: كان اليهود إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجلسوا وإياها تحت سقف واحد، ونحن أحل لنا الاستمتاع بالحائض فيما دون الفَرْجِ.
فعن أنس: ((أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهن في البيوت؛ أي: لم يخالطوهن ولم يساكنوهن في بيت واحد[7]، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح»، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يَدَعَ من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه...))[8].
ثالثًا: في بني إسرائيل الذي يعـمل المعصية ويرتكب الفاحـشة ويريد أن يتوب منها لا بد أن يقتـل نفسه؛ قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54]؛ ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله: "أن بني إسرائيل قاموا في ساعة مظلمة من النهار أظلمها الله عز وجل عليهم، فقاموا على بعضهم بالسيوف حتى قتل بعضهم بعضًا في ساعة واحدة، وكانوا سبعين ألفًا؛ لأن هذه طريقة التوبة التي فرضها الله عز وجل على بني إسرائيل"[9].
وكانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبًا يكتب ذنبه على باب داره، وتُكتب معه كفارته؛ يعني تخيلوا معي: كل شخص يعمل معصية فيكتب على بابه: فلان فعل المعصية الفلانية، والناس كلها ترى هذه الكتابة، يا لها من فضيحة!
أما نحن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أكرمنا الله بالستر، وأمر الأمة بالتخلق بخلق الستر؛ فقال صلى الله عليه وسلم، عندما جاءه رجل فقال: يا رسول الله، لقد رأيت فلانًا يزني بفلانة، فماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم؟ اسمعوا إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلمنا من خلال هذا الموقف كيف يتعامل المسلم مع أخيه الذي وقع في المعصية؟!
قال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الذي جاء ليخبره بأن فلانًا قد زنى: «لو كنت سترته بثوبك كان خيرًا لك» [10].
بل حتى يوم القيامة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يُدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» [11].
فهذا هو نبيكم صلى الله عليه وسلم الذي يسعى دائمًا إلى التخفيــف واليسـر على هذه الأمة، بل من شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، كان يترك فعل الكثير من العبادات الفاضلة مع أمته، أو أمرهم بها؛ خشية أن تُفرض عليها؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضــوء» [12]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة» [13]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشـــق على أمتي لأمرتهم بالســـــواك عنـد كـــل صــلاة، ولأخَّرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل» [14]، هذا هو نبيكم صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يشق على أمته، دائمًا يختار الأسهل والأيسر من الأمور.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم:{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، وقول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] فرفع يديه وقال: «اللهم، أمتي أمتي»، وبكى، فقال الله عز وجل: «يا جبريل، اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فسَلْهُ: ما يبكيك» ؟ فأتاه جبريل عليه السلام، فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: «يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك» [15].
قال الإمام النووي رحمه الله: "وفي هذا الحديث بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ورأفته بهم، واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخَّر النبي صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم"[16].
فإذا كان صلى الله عليه وسلم هذا حبه لنا كأفراد وأمة، فحريٌّ بنا أن نحبه من أعماق قلوبنا، وأن يكون حبنا له حبًّا صادقًا بالقلب واللسان والأعضاء، وذلك بتوقيره وطاعته والاقتداء به، فيا من تدَّعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخلِص في العمل، واصدق في القول، واتبع ما أمر به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، واجتنب ما نهى عنه؛ لكي تشرب من يده الشريفة شربة لا تظمأ بعدها أبدًا، فاللهم ارزقنا هذه الشربة من يده حتى لا نظمأ بعدها أبدًا.
من صور حبه وشفقته صلى الله عليه وسلم لأمته:
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم طِيبَ نفس، قلت: يا رسول الله، ادعُ الله لي، فقال: «اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، ما أسرت وما أعلنت»، فضحكت عائشة رضي الله عنها حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيسُرُّكِ دعائي» ؟ فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «والله إنها لدعائي لأمتي في كل صلاة» [17].
هذا هو حبه لأمته، فأين المسلم الذي يقابل هذا الحب بالالتزام بسنته، والتخلق بأخلاقه، والسير على هديه؟ أسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم حبه والتخلق بأخلاقه.
[1] جامع البيان للطبري: (18/ 552).
[2] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: (8/ 302).
[3] صحيح البخاري، كتاب العلم - باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا: (1/ 27)، برقم (69).
[4] صحيح البخاري، كتاب الأدب - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا)): (8/ 36)، برقم (6126).
[5] صحيح البخاري، كتاب الأدب - باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا)): (8/ 37)، برقم (6128).
[6] صحيح البخاري، كتاب الوضوء - باب البول عند سباطة قوم: (1/66)، برقم (226).
[7] شرح النووي على مسلم: (3/ 211).
[8] صحيح مسلم، كتاب الحيض - باب اصنعوا كل شيء إلا النكاح: (1/ 246)، برقم (302).
[9] ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير: (1/ 262).
[10] عن هـزال: أنه ذكـر شيئًا من أمر ماعز للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت سترته بثوبك، كان خيرًا لك))؛ [أخرجـه أحمد في مسـنده: (36/ 220)، برقم (21894)]، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط: هذا إسناد حسن.
[11] صحيح البخاري، كتاب المظالم - باب قول الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]: (3/ 168)، برقم (2441)، وصحيح مسلم، كتاب التوبة - باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله: (4/ 2120)، برقم (2768).
[12] صحيح البخاري، كتاب الصوم - باب سواك الرطب واليابس للصائم: (3/ 40)، برقم (27).
[13] صحيح البخاري، كتاب الجمعة - باب السواك يوم الجمعة: (2/ 5)، برقم (887).
[14] سنن الترمذي، أبواب الطهارة- باب ما جاء في السواك: (1/ 77)، برقم (23) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
[15] صحيح مسلم، كتاب الإيمان - باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وبكائه شفقةً عليهم: (1/ 191)، برقم (202).
[16] شرح النووي على مسلم (3/ 75).
[17] صحيح ابن حبان، مناقب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين - ذكر مغفرة الله جل وعلا ذنوب عائشة ما تقدم منها وما تأخر: (16/ 48)، برقم (7111).
__________________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي