حسنات جارية
إن من فضل الله تعالى أن المؤمنَ يستطيع أن يعمل أعمالًا صالحة، حسناتها جارية، ما دام نفعها باقيًا، يستمر وصولها إليه ولو بعد موته، وربما تكون سببًا في نجاته من النار، وفوزه بالجنة مع الأبرار.
- التصنيفات: الحث على الطاعات - نصائح ومواعظ -
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فإن من فضل الله تعالى أن المؤمنَ يستطيع أن يعمل أعمالًا صالحة، حسناتها جارية، ما دام نفعها باقيًا، يستمر وصولها إليه ولو بعد موته، وربما تكون سببًا في نجاته من النار، وفوزه بالجنة مع الأبرار.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله، إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»؛ (رواه مسلم).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعٌ يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علَّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفر له بعد موته»؛ (حسنه الألباني في صحيح الترغيب).
فقدِّم في حياتك الفانية لحياتك الباقية، قدِّم لنفسك ما ستجده بين يديك، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 23، 24]، وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 55 - 58].
قدِّم لنفسك يا عبدالله، ما دمت في هذه الدار، فإن كنت تحسن علمًا من العلوم النافعة، فعلِّمه غيرك ابتغاء وجه الله، وإن أشرف العلوم وأعظمها علم الشريعة الإسلامية؛ قال عليه الصلاة والسلام: «من علَّم علمًا، فله أجر من عمل به، لا ينقص من أجر العامل»؛ (سنن ابن ماجه، وصححه الألباني).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثل أجور من تبِعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا»؛ (رواه مسلم).
إن كنت تحسن قراءة القرآن فعلِّم غيرك، ولو أن تعلم طفلًا سورة الفاتحة أو قصار السور، فإنه كلما قرأ بها، كُتب لك ثواب تلك القراءة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علَّم آيةً من كتاب الله عز وجل، كان له ثوابها ما تُليت»؛ (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة).
ومن الحسنات الجارية الوقف الذي يُحبس أصله وتُسبل منفعته، فبسبب بقاء نفعه للناس يدوم أجره؛ وذلك كبناء مسجد، أو حفر بئر، أو بناء مدرسة، أو غرس نخل، أو شجر مثمر، يأكل منه إنسان أو حيوان، أو ما شابه ذلك مما ينفع المسلمين ويستمر نفعه.
فإن كنت تستطيع التصدق بصدقة في مشروع كامل، فهذا أكمل وأعظم أجرًا، وإن كنت لا تستطيع، فشارك بسهمٍ في صدقات جارية؛ كبناء مسجد، أو حفر بئر، أو غير ذلك، ولو بمال يسير تقدمه أو بجهدك وعمل يدك.
ولأهمية الصدقة الجارية؛ تسابق الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا العمل، وحرصوا عليه؛ حتى قال جابر رضي الله عنه قال: "ما بقِيَ أحد من أصحاب النبي له مقدرة إلا وقف".
قال الخصاف في كتابه: "أحكام الأوقاف:رُوي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حبس رباعًا له كانت بمكة وتركها، فلا يعلم أنها وُرثت عنه، ولكن يسكنها مَن حضر مِن ولده، وولد ولده، ونسله بمكة، ولم يتوارثوها.
وروى البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أصاب عمر بخيبر أرضًا فأتى النبي، فقال: أصبت أرضًا لم أُصب مالًا قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر: أنه لا يُباع أصلها، ولا يُوهَب، ولا يُورث، للفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل".
وأوقف عثمان بن عفان رضي الله عنه بئر رومة على المسلمين؛ لما قال صلى الله عليه وسلم: «من حفر رومة، فله الجنة»؛ (رواه البخاري).
وقد بشَّر النبي عليه الصلاة والسلام من يحفر بئرًا بالأجور الكثيرة العظيمة؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «من حفر ماءً لم يشرب منه كبد حرَّى من جنٍّ، و لا إنس، ولا طائر - إلا آجره الله يوم القيامة»؛ (صحيح الترغيب).
وأوقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ قال البيهقي: "قال الحميدي: وتصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأرضه بينبع، فهي إلى اليوم (زمن الحميدي)، وله عيون متفرقة كثيرة، وقفها رضي الله عنه على المساكين والمحتاجين، ذكرها ابن شبة في كتابه: تاريخ المدينة."
وفي الحديث الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا؛ قد احتبس أدْرَاعَه وأعْتُدَه في سبيل الله...».
وممن أوقف أيضًا أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ فقد روى الخصاف بسنده إلى هاشم بن أحمد: "أن عائشة رضي الله عنها اشترت دارًا، وكتبت في شرائها: إني اشتريت دارًا، وجعلتها لِما اشتريتها له، فمنها مسكن لفلان ولعقِبه ما بقيَ بعده إنسان، ومسكن لفلان - وليس فيه: ولعقبه - ثم يُرَدُّ بعد ذلك إلى آل أبي بكر".
فهذه بعض النماذج من أوقاف الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ولو ذكرنا كل ما ورد عن أوقافهم لطال الحديث.
وقمْ بتربية أبنائك تربية صالحة على الدين والخلق الحسن، فسترفع درجتك بدعائهم واستغفارهم لك، ولك مثل ثواب أعمالهم الصالحة.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل لتُرفع درجته في الجنة فيقول: أنى هذا؟ فيُقال: باستغفار ولدك لك»؛ (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
ولا شك أن صلاح الأبناء توفيق من الله تعالى، فالهداية بيده سبحانه، ولكنَّ الوالدين مأموران ببذل الأسباب المعينة على ذلك، وأعظم أسباب صلاح الأبناء سؤال الله تعالى ودعاؤه أن يصلحهم، ثم بذل الجهد في صلاحهم، وأول ذلك أن يكون الوالدان قدوة صالحة لأبنائهما، وأن يُيَسِّرا لهم البيئة المعينة على الصلاح، ويأمراهما بالمعروف وينهياهما عن المنكر.
قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].
وفي قوله تعالى: {وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] قولان لأهل العلم:
أحدهما: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضًا، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «من سنَّ في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا».
قال قتادة: "لو كان الله تعالى مغفِلًا شيئًا من شأنك يا بن آدم، أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله، فليفعل".
والقول الثاني: أن المراد بذلك آثار خُطاهم إلى الطاعة أو المعصية، وقد وردت في هذا المعنى أحاديث؛ منها ما ورد عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: ((خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: «إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد» ، قالوا: نعم، يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: «يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم».
قال ابن كثير رحمه الله: "وهذا القول لا تنافيَ بينه وبين الأول، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولَى والأحرى، فإنه إذا كانت هذه الآثار تُكتب، فلأن تُكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى، والله أعلم"؛ (تفسير ابن كثير، بتصرف).
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
_________________________________________________
الكاتب: عبدالهادي بن صالح محسن الربيعي