شرنقة الإلحاد
إن الإلحاد لا يرى في الكون إلا فضاء ماديا تسبح فيه مادة صماء تحكمها قوانين مادية صارمة، ولا يرى أبدا وجودا لشيء غير مادي...
أبحر أبو الإلحاد ليلة على أمواج الشبكة الإلكترونية متنقلا بين المنتديات والمواقع المختلفة. شعر أنه يكاد يغرق في بحر من الصور والكلمات والأرقام والخيالات. كان يقرأ مقالات المؤمنين تارة، وردود الملحدين تارة أخرى، فيظل مذبذبا متأرجحا بين الآراء المتباينة، والأحاسيس المتضاربة. أغمض عينيه وأخفى وجهه بين كفيه حين تصور أن ملايين النقط التي تشكل هذا العالم الافتراضي العجيب تهجم عليه كأنها أسراب مرعبة من الزنابير السامة.
خيل إليه أنه يحس بوخزها في سائر أنحاء جسمه وخاصة في عينيه. أطفأ الحاسوب وأشعل سيجارة. أخذ نفسا عميقا ثم تساءل عن مذهب الإلحاد وكنهه، وعن وروده وشوكه، وعن لبه وقشره وعن تخبطه وشكه. تمثلت له الصورة الفاتنة التي يرسمها الزملاء لمذهبهم حين يحاجون المتدينين، إنك إن تسمع لأقاويلهم لتحسب الإلحاد جنة وارفة الظلال طيبة الهواء واسعة الأرجاء يحيا فيها المتنورون حياة هنيئة طيبة تهب عليهم فيها نسائم الطمأنينة واليقين الإلحادي، فيرفعون رؤوسهم في فخر واعتزاز ليلتقطوا في كل حين ثمرات التنوير الدانية، في بيئة اجتثت منها رواسب الخرافة وغرست فيها أغراس العلم وارتفعت صروح الحضارة. يا لها من صورة مغرية يسيل لها لعاب من اكتفى من الإلحاد بما يدعيه أهله! أما من خبره واكتوى بشواظ ناره المحرقة كما اكتوى أبو الإلحاد فإنه يعلم أن هذه صورة لا تصلح إلا للدعاية ولمجادلة الخصوم.
ما أشبه صنيع الزملاء في تزويق ملتهم العوجاء وتنميق مذهبهم الأعرج بصنيع الشيوعيين في دولتهم البائسة البائدة. لقد أقام البلاشفة للبروليتاريا جحيما مرعبا وأحاطوه بالأسوار العالية الملونة، ثم طفقوا يرسمون صورة خيالية لجنة يحبر فيها مجتمع فريد تخلص من رواسب الرجعية والطبقية وانعتق من كل القيود المادية والمعنوية، لقد أحكم الزملاء آنذاك حبك خديعتهم حتى انطلت على طائفة من عقلاء العالم، فحسبوا نار الدولة الحمراء ماء عذبا فراتا.
تساءل صاحبنا عن أعظم ما يقض مضجعه حين يضطر للدفاع عن مذهبه، فوقع في نفسه أنه افتقاره دوما للخروج من قوقعة الإلحاد الضيقة ليستعير من قاموس الخصوم وأفكارهم ما يستعين به في الرد عليهم، إن الإلحاد يضيق عليه كلما أراد أن يناظر خصما في أصول الأخلاق وقيم العدالة والخير والشر والمسؤولية والجزاء. إنه يبدأ خيانته للمذهب الإلحادي عادة بهذه الجملة الماكرة: "لنسلم جدلا أيها الزميل المؤمن،على سبيل التنزل..." إنه يعلم أنه ليس تنزلا ولا جدلا، لكنه العجز الفاضح عن تفسير العالم تفسيرا ماديا صرفا.
إنه يشعر بالصداع النصفي حين يضطر ليستعمل مصطلحات ملوثة ميتافيزيقيا في جداله لأهل الإيمان، إنه يشعر بنفسه عاريا حين يتحدث عن الضمير الإنساني وعن الفضيلة والرذيلة وعن السلوك الأخلاقي. إن الإلحاد لا يرى في الكون إلا فضاء ماديا تسبح فيه مادة صماء تحكمها قوانين مادية صارمة، ولا يرى أبدا وجودا لشيء غير مادي، وإن وجد شيء من ذلك في تفكيره، وهو الملحد الجلد، فإنما هو من رواسب الأفكار الرجعية، فكيف لم يستطع بعد كل تلك السنوات الخدّاعات أن يخلص إلحاده من تلك الشوائب المزعجة؟
إنها سلسلة طويلة من المسائل التي تحير الفكر المادي كأنها من طينة أخرى غير طينته. لكن بينها شيئا مشتركا، إنها محاولة لترجمة العالم المادي إلى لغة غير لغته. إنها أحكام يصدرها العقل الإنساني الذي لم يتحرر بعد من رواسب المعتقدات الدينية، بعد أن يعرض وقائع العالم المادي وتفاعلاته الدقيقة على ميزان آخر، له مقاييس أخرى غير مقاييس المختبر. إنه ميزان لا يقيس الحجم والكثافة والحرارة وغيرها من الخصائص الفيزيائية للمادة، بل يسعى للحكم عليها من جهة الخير والشر والعدل والظلم والحق والباطل والصلاح والفساد. إنها منظومة متكاملة من الأحكام الميتافيزيقية الفضفاضة التي يتوهم المتدينون قدرتها على كبح جماح العالم المادي بقوته القاهرة وحتميته الباهرة. لا يهمني كثيرا أن يبقى المتدينون أسرى أوهام الأخلاق والخير والعدالة، الذي يحيرني أني ما أبرح أستقي من ذات المعين الذي يغرفون منه هذا الفكر الأسطوري، وأنني لا أقوى على التبرؤ الكامل منه. فهل أستطيع أن أنفي أني أشعر بمعنى العدل والظلم وبحقيقة الخير والشر؟ إني أرى مثلا أن الحكم على نتائج تفاعلات العالم المادي بمعيار العدل والظلم يعد في حد ذاته ظلما للمادة، يا للمفارقة، إني أسعى لإلغاء سطوة هذه المقاييس الغريبة فأجد نفسي في كل مرة واقعا في فخها متخبطا في شباكها!
إني كلما جادلت متدينا وبارزته في حزم وشجاعة كما يليق بفرسان الإلحاد الصناديد، وحملت عليه بسيف التسفيه أبغي نسف بنيان معتقده، كلما تمنيت ألا يفتح علي باب هذه المتاهة العجيبة. إن أخشى ما أخشاه إن انتقدت على الخصم اختياراته وقناعاته أن يجيبني: "وأي شيء يضيرك فيما أراه وأقوله وأختاره أيها الزميل الملحد؟ أليس كل شيء محكوما بقوانين مادية دقيقة؟ فما وجه الإنكار أصلا؟ "كتلة مادية لها تفاعلات إلحادية تنكر على كتلة مادية لها تفاعلات إيمانية"، قل لي أيها الزميل، بأي قوانين مادية استطعت أن تحكم على تفاعلاتي بالبطلان والفساد، بل من أين جئت بحكم البطلان والفساد أصلا؟"
حينها أخرج مكرها من بيت الإلحاد المتهالك إلى العراء الفسيح، حيث تلفحني شمس الميتافيزيقا، وتعصف بي رياح الأفكار المثالية المهلهلة. لكم أشعر بالمهانة حين أضطر للإستعارة من قاموس الإفتراض، وأقترض من لغة الإعتقاد، إني أكاد أظن حينذاك أن الإلحاد مشرف على الإنقراض. وما للمادة والإفتراض؟ إن المادة لا تفترض شيئا، إنها لا تقف قط في مفترق طرق حائرة متفكرة، تحك جبينها متساءلة: "أيجدر بي أن أمشي يمينا، أم أن الأولى أن آخذ ذات الشمال؟" هل تصورتم أن الذرات والإلكترونات تهبط إلى هذا الحضيض من الترف الفكري الميتافيزيقي؟ إن هذا لغو وهراء لا تعرفه المادة وأنا مادة، فمن أين جاءني هذا السلوك العجيب؟
تظل هذه الأسئلة القاتلة تهجم على رأسى كأنها مطارق مدببة، كالتي استعملها محاربوا الشمال في العصور المظلمة، إلى أن أيأس من الحصول على جواب، فأعود ذليلا صاغرا إلى بيت الإلحاد الخرب، لعله يهبني شيئا من الدفء والسكينة. لكن هيهات.
إني يرقة إلحادية يتيمة تأوي إلى شرنقة ضيقة، شرنقة الإلحاد، إني يرقة تتوق أن تصير يوما فراشة مضيئة تسهم في تنوير مجتمع لا أرى فيه إلا الظلام ولا أرى أهله إلا كالهوام، لكني كلما أردت أن أنشر أجنحتي فأطير مبشرا بملة التنوير، كلما شعرت أني أنا من يتخبط في الظلام. إني لا أغادر الشرنقة إلا لأكتشف أن العالم خارج خيوطها المتشابكة أرحب وأوسع. أجادل غيري باسم الإلحاد وأهاجمه بلسان من أمسك بناصية المعرفة وتمكن من زمام العلم، فما يلبث الهجوم أن يرتد إلي، فلا أجد مناصا من طرح الإلحاد وماديته وصرامته وحتميته خلف ظهري، لأتطفل على ميزان الخير وجماله، والشر وقبحه والعدل وتناسقه، والظلم وتناقضه، ثم أعود بعد هذا كله إلى شرنقتي المتهالكة، التي تتمزق في كل مرة أنسل من بين خيوطها المتشابكة وفي كل كرة أعود فيها إلى تلافيفها الضيقة، إنها صارت مع مرور الليالي والأيام أوهى من بيت العنكبوت. إني أحيا حياة النفاق، إني أعاني أعراض انفصام الشخصية.
تساءل صاحبنا في نفسه: "ما دمت أرى هذا كله فما الذي يبقيني مستمسكا بالإلحاد؟" حينها طرق رأسه سؤال: "وهل تظن أن كل أولئك العباقرة الأفذاذ كانوا على باطل؟" ضبط نفسه مرة أخرى يستعير من غير قاموس المادة، وهل تعرف المادل "التساؤل" و"الظن" و"البطلان"؟ ويئس أن يصل الليلة إلى مخرج من متاهته المظلمة فوضع رأسه على مكتبه وقد غلبه الإجهاد، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يغط في نوم عميق.
____________________________________________________
الكاتب: هشام البوزيدي
- التصنيف: