الكنز المهان
إذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك، فأغمض عينيك؛ فإن كثرة اعتيادنا نِعَمَ الله علينا وإلفنا لها، جعلنا نغفُل عنها وننساها، ولا نشعر بقيمتها، وكأنها واجب على الله لنا!
قالوا: إذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك، فأغمض عينيك؛ فإن كثرة اعتيادنا نِعَمَ الله علينا وإلفنا لها، جعلنا نغفُل عنها وننساها، ولا نشعر بقيمتها، وكأنها واجب على الله لنا!
فلا يشعر بقيمة النعمة إلا من زالت عنه أو حُرم منها، فلا يعرف قدر نعمة البصر إلا الأعمى، ولا يعرف معنى نعمة الصحة إلا المرضى، ولا يرى نعمة الأمن إلا الخائف، ولا يشعر بنعمة الطعام إلا الجوعى.
فمن ذاق آلام الجوع وتفتت كبده، عرف نعمة الطعام والغذاء.
ومن عرف قدر نعمة الطعام، قطع العهد على نفسه أن يحافظ على هذه النعمة ولا يُهينها أبدًا.
والحفاظ على الطعام، جعلني أعود بذاكرتي إلى زمن بعيد، وأنتقي من صفحاتها، فعندما كنت طفلًا صغيرًا، كنت أرى أمي - حفظها الله - إذا رأت طعامًا ملقًى على الأرض أسرعت في التقاطه، وأماطت عنه الأذى، وقالت: اللهم أدِمْها نعمةً، واحفظْها من الزوال، وكانت تأمرني بذلك، وكنت أفعل؛ تقليدًا لا فهمًا، وكلما سألتها عن سبب ذلك، قالت: يا بني، من حمده زاده، ومن كفره كثرت أنكاده، فكنت لا أفهم معنى كلماتها، وكنت أرى رجال قريتي إذا رأى أحدهم طعامًا على الأرض توقف عن السير إن كان مترجلًا، ونزل عن دابته إن كان راكبًا؛ ليلتقط الطعام من على الأرض، ويميط عنه الأذى، فيأخذه إن كان صالحًا، ويضعه على جانب الطريق إن كان فاسدًا؛ رجاء أن يجده حيوان (قط، كلب، طير،. إلخ)؛ فيأكله.
كنت أسأل نفسي كثيرًا: لماذا يصنعون هذا مع الطعام؟ ولماذا يعظمونه كل هذا التعظيم؟ ولماذا لا يرضَون له الإهانة؟ هل ما يصنعونه مع الطعام له سند شرعي؟؟
تمر الأيام، ويزداد عمري، وكلما زاد عمري، زاد إلحاح السؤال عليَّ، حتى قررت أن أجد إجابةً لسؤالي، فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سقطت لقمة أحدكم فليُمط عنها الأذى وليأكلها»؛ (صحيح مسلم).
يا ألله! كم كانت أمي ورجال قريتي البسطاء أفقه مني! كم كانوا أفقه من عالَمٍ أهان غذاءه، ثم صرخ من الجوع! فعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سقطت منه اللقمة، أماط عنها الأذى وأكلها.
ولعلك تلاحظ أن أيام النبي لم تكن عندهم الفُرُش كالتي لدينا، فربما وقعت اللقمة على التراب، فيميط النبي صلى الله عليه وسلم عنها الأذى ويأكلها، فمن منا يصنع ذلك الآن؟ إن أحدنا إذا سقطت منه اللقمة، لم يهتم بها ولم ينظر إليها، فلماذا ينظر إليها؟ إن المائدة عليها أصناف وألوان من الطعام، وإن أوانيَ الطهي ممتلئة بالأطعمة، فلماذا يلتقط إذًا اللقمة الساقطة؟ إنه يمتلك الطعام الكثير، عذرًا يا عزيزي: إن من احتقر قليل الطعام احتقر كثيره، ومن أهان قليله أهان كثيره.
إن حبات الأرز المتساقطة على مائدتك، أو فتات الخبز المتناثر عليها، أو قليل الحساء الذي تحتقره، أو حبات التمر الملقاة على الأرض - يتمناها غيرك من المحاصرين والمشردين، والفقراء والمساكين؛ ليسد بها جوعه، أو يُسكِت بها بكاء أطفاله، إنها عنده أغلى من كنوز الأرض، إنها عنده أغلى من الذهب والماس، فهل يسد الذهب أو الماس جوعته إذا غاب الطعام؟
أدعوك الآن أن تغمض عينيك وتسرح بخيالك وتتصور أنك بت ليلتك، ثم استيقظت في الصباح، فلم تجد طعامًا في منزلك، فذهبت إلى الأسواق فلم تجد طعامًا تشتريه، وأنت الآن جوعان، ماذا تصنع وقتها؟ وكم تساوي اللقمة الساقطة عندك وقتها؟ وأيهما أغلى اللقمة الساقطة أم أطنان الذهب؟
لقد دهشت وزادت دهشتي، عندما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم، مرَّ في الطريق ذات مرة، فرأى تمرةً ساقطةً، ولا يعلم مصدرها ولا ممن سقطت، وكان لا يأكل الصدقة، فقال: «لولا أن تكون من صدقة لأكلتُها»؛ (صحيح البخاري).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الحفاظ على الطعام وعدم إهانته، وتعظيمه وإن كان قليلًا، حتى يزيدنا الله من نِعَمِهِ {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، فهل شكرنا نعمة الطعام والشراب أو أهنَّاها في الوحل والتراب؟
هناك من يسرف في إعداد الطعام، ويصنع من الطعام أضعاف حاجته، ثم يلقي ما تبقى في القُمامة: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، فلماذا يصنعون من الطعام أكثر مما يحتاجون؟ وإذا صُنع الطعام وكان أكثر مما يحتاج، وأصبح لديه فائض، فلماذا يلقيه في القمامة؟ ألَا يستطيع أن يحافظ عليه لوجبة غذاء أخرى؟ ألَا يستطيع أن يضع الصالح من الطعام في أطباق نظيفة، أو علب بلاستيكية، ثم يعطيها الفقراء والمساكين، أو العمال والخدم؟ إن أحدنا إذا جاءه ضيف، صنع له من الطعام أضعاف أضعاف ما يأكله الضيف، ثم يصرخ ماذا أصنع بالطعام الباقي؟ يلقيه أيضًا بالقمامة.
وأما فائض الطعام في الولائم والاحتفالات والأفراح، فيكفي أن أخبرك أن الفائض من أحد الاحتفالات عجز الناس عن حمله؛ فحملوه بالجرافات إلى أكوام القمامة.
فهل هذا هو شكر نعمة الله علينا؟
وهل فقدنا الإحساس بالنعمة حتى صرنا لا نبالي بها؟
أخشى أن نكون كفرنا بالنعمة؛ فيصيبنا قول الله تعالى: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]، فاحذروا؛ فإن سنن الله لا تحابي أحدًا؛ يقول أحدهم: كنت أسير في الطريق، فوجدت رجلًا من أحد الدول الآسيوية يبكي بكاءً شديدًا حتى ابتلت لحيته، فظننت له حاجة، اقتربت منه وسألته: ما بك؟ ولماذا تبكي؟ فلم يجبني الرجل، وقلت في نفسي: هو أخرس، ما زال الرجل يبكي بكاءً شديدًا، ثم قال لي: تعال معي، فأخذني إلى القمامة ثم قال: انظر، أبكي على هذا، فإذ بي أرى بجوار القمامة طعامًا ملقًى على الأرض، إنه طعام صالح وكثير، يكفي لعشرات الأشخاص، ثم قال الرجل: والله، لقد كنا في نعمة مثلكم وأكثر، فلم نحافظ عليها وأهناها واحتقرناها فسلبها الله منا، وإن بقيتم على هذا الحال سيسلبها الله منكم.
ويقول رجل طاعن في السن من جنوب السعودية: قبل النفط كانت ديارنا فقيرة، وكانت الصومال بلد خير ورزق وتجارة، فذهبت إلى هناك قبل سبعين سنة أبحث عن الرزق، وقد رأيت أهل الصومال يلقون النعمة في القمامة من الرغد الذي هم فيه.
فسبحان الله!
كيف كانت الصومال؟ وكيف هي الآن؟
فاحذروا من زوال النعمة، وقيِّدوها بالشكر؛ فالشكر قيد للنعمة، وكفر النعمة طارد لها؛ لذلك كان السلف يعظِّمون النعمة ويحافظون عليها؛ فأم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها قد أبصرت حبة رمان في الأرض، فأخذتها، وقالت: إن الله لا يحب الفساد.
والتقط أبو الدرداء رضي الله عنه حَبًّا منثورًا في غرفة له، وقال: "إن من فقه الرجل رفقَه في معيشته"، فهل نترك الطعام يُهان بعد اليوم؟ وهل نستخف به أو نحتقره؟ وهل يستكبر أحدنا إذا سقطت منه اللقمة أن يميط عنها الأذى ويأكلها؟ وهل نلقيه في القمامة؟
حين تطالعك إحصائيات الطعام المهدور في العالم يصيبك الفزع، فإن سكان العالم يهدر ثلث الغذاء الموجه للاستهلاك البشري، حسب الموقع الرسمي لمنظمة الأغذية والزراعة، وتعادل الكمية المهدورة من الغذاء العالمي حوالي مليار و300 مليون طن سنويًّا.
وحين تطالعك الأرقام الهائلة لأعداد الجوعى في العالم تكون أكثر فزعًا.
أخي، إن الجوع ليس رجلًا فنقتله، وليس جيشًا فنحاربه، وإنما يقتله كسرة خبز أو حبات أرز، فلنحافظ عليها ولا نبخل بها على جائع أو فقير أو مسكين، فالجوع بئس الضجيع، وفي تاريخ المجاعات عِبَرٌ وعظات، وقد كتب العلَّامة محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى عن مجاعة في الشام وقعت قبل قرن فقال: "وقد ثبت عندي أن بعض الناس كانوا يأكلون ما يجدونه في المزابل والطرق رطبًا يُمضغ، أو يابسًا يُكسر، وأخبرني في بيروت من رأى بعض الأولاد الصغار رأوا رجلًا قاء في الطريق فتسابقوا إلى قيئه وتخاطفوه فأكلوه، وثبت عندي أكل الناس الجيفَ، حتى ما قيل من أكل بعض النساء لحوم أولادهن، والعياذ بالله تعالى، وأخبرني كثيرون في بيروت وطرابلس أن الناس كانوا يرون الموتى في الشوارع والأسواق، والمشرفين على الموت من شدة الجوع، ولا يبالون بهم، ولا يرثون لأنين المستغيثين منهم"؛ [انتهى كلامه].
عزيزي القارئ، وقانا الله وإياكم شر الجوع؛ فالجوع لا يرحم، وألمه لا يسكن، والبطن تطلب هل من مزيد؟ أحسِنْ جوار النعمة تدُمْ عليك، ولا تحتقرها فتفرَّ منك، ولا تنسَ الجائع؛ فإن الجوع لا قلب له، ولا شفقة لديه، فلا يعرف صغيرًا ولا كبيرًا، ولا يعرف وضيعًا ولا شريفًا.
____________________________________________________
الكاتب: محمد ونيس
- التصنيف: