ليس للعبد أن يختبر ربَّه
قال الزهري: إن العبد لا يبتلي ربَّه؛ ولكن الله يبتلي عبده.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ قال لي: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مذ خَلَقَ السماءَ والأرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ»، قال: «وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْقَبْضُ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ».
إنَّ العلاقة بين العبد وربِّه ليست كعلاقة البائع والمشتري قائمة على تبادُل المنافع وليست كعلاقةٍ أي اثنين بينهما عقد لكل منهما مصلحة في النهاية، فالله عز وجل غنيٌّ عن عباده، لا تنفعه طاعةُ الطائعين، ولا تضُرُّه معصيةُ العاصِين، ليست العلاقة بين العبد وربِّه قائمةً على سوء الظَّنِّ والشك والتجارب؛ إنما هي علاقة قائمة على الإيمان بالله سبحانه وتعالى واليقين فيما عنده وما أخبر به جَلَّ جلاله.
نعلم جميعًا أننا في دار اختبار وابتلاء وامتحان، قال الله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، فالله يختبرنا؛ لكن هل يليق بالعبد أن يختبر ربَّه ويُجرِّبه، هكذا مع الأسف يتعامل فئة من الناس مع ربهم بهذا المنطق؛ مثل: الله يقول في الحديث القدسي: «أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»، فتجده يتصدَّق وينفق وينظر هل يفعل الله له ذلك أم لا؟
هذا وإن دلَّ فإنما يدل على سوء ظنِّ هذا العبد بربِّه، والشك في كلامه، وعدم اليقين به سبحانه وتعالى، إنه لا يليق بالمربوب أن يُجرِّب ربِّه؛ بل مقتضى العبودية مراعاة الأدب وعدم التجربة.
المؤمن لا يُجرِّب إلهه، فهو قابل ابتداءً لكل ما يُقدِّره له، مستسلم ابتداءً لكل ما يُجريه عليه، راضٍ ابتداءً بكل ما يناله من السَّراء والضرَّاء، وليست هي صفقة في السوق بين بائع وشارٍ؛ إنما هي إسلام المخلوق للخالق، وهناك السعادة والسلامة: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112].
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ليجرب أَحَدُكَمْ بِالْبَلَاءِ كَمَا يجرب أَحَدُكُمْ ذَهَبَهُ بِالنَّارِ، فَمِنْهُ مَا يَخْرُجُ كَالذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ، فَذَلِكَ الَّذِي حَمَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الشُّبُهَاتِ، وَمِنْهُ مَا يَخْرُجُ كَالذَّهَبَةِ دُونَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ الَّذِي شَكَّ بَعْضَ الشَّكِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْرُجُ كَالذَّهَبِ الْأَسْوَدِ، فَذَلِكَ الَّذِي قَدِ افْتُتِنَ» ؛ (رواه الطبراني في معجمه الكبير)، والحاكم في مستدركه، وَقَالَ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ، قال ابن حجر في إتحاف المهرة: فيه عُفَيْرٌ ضَعِيفٌ جِدًّا.
حُكِي عن إبليس- لعنه الله - أنه حين ظهر لعيسى بن مريم عليه السلام، فقال: ألست تقول: إنه لن يصيبك إلَّا ما كتبه الله عليك؟ قال: نعم، قال: فارْمِ نفسَك من ذروة هذا الجبل، فإنه إن يقدر لك السلامة تسلم، فقال له: يا ملعون، إن لله أن يختبر عباده، وليس للعبد أن يختبر ربَّه؛ رواه معمر في جامعه، وابن بطة في الإبانة الكبرى.
قال الزهري: إن العبد لا يبتلي ربَّه؛ ولكن الله يبتلي عبده، قال: فخصمه.
قال ابن أبي الدنيا: ومثل هذا الجواب لا يستغرب من أنبياء الله تعالى الذين أمدَّهم بوحيه، وأيَّدَهم بنصره؛ وإنما يستغرب ممَّن يلجأ إلى خاطره، ويُعوِّل على بديهته.
مَن يتعامل بالتجارب ووقع الأمر على خلاف ما يظُنُّ أو يريد فلا يلومَنَّ إلا نفسَه؛ لأنه تعامَلَ بالشكِّ وسوء الظَّنِّ.
قال الهروي في مرقاة المفاتيح: حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ رَحَلَ إِلَى دِمَشْقَ لِأَخْذِ الْحَدِيثِ عَنْ شَيْخٍ مَشْهُورٍ بِهَا، فَقَرَأَ عَلَيْهِ جُمْلَةً؛ لَكِنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابًا، وَلَمْ يَرَ وَجْهَهُ، فَلَمَّا طَالَتْ مُلَازَمَتُهُ لَهُ رَأَى حِرْصَهُ عَلَى الْحَدِيثِ كَشَفَ لَهُ السِّتْرَ، فَرَأَى وَجْهَهُ وَجْهَ حمار، فَقَالَ لَهُ: احْذَرْ يَا بُنَيَّ أَنْ تَسْبِقَ الْإِمَامَ، فَإِنِّي لَمَّا مَرَّ بِي فِي الْحَدِيثِ اسْتَبْعَدْتُ وُقُوعَهُ فَسَبَقْتُ الْإِمَامَ فَصَارَ وَجْهِي كَمَا تَرَى.
فهذا حال من يريد التجارب وفيه عِظَةٌ وعِبْرةٌ.
فارق بين من يتعامل مع الله بالتجارب وبين من لم يفعل ذلك، ذكر الذهبي في السير في ترجمة حيوة بن شريح، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: كَانَ حَيْوَةُ يَأْخُذُ عَطَاءهُ فِي السَّنَةِ سِتِّيْنَ دِيْنَارًا، فَلَمْ يَطْلعْ إِلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى يَتَصَدَّقَ بِهَا، ثُمَّ يَجِيْءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَيَجِدَهَا تَحْتَ فِرَاشِه، وبلغَ ذَلِكَ ابْن عَمٍّ لَهُ، فَأَخَذَ عَطَاءهُ، فَتَصَدَّقَ بِهِ كُلَّهِ، وَجَاءَ إِلَى تَحْتِ فِرَاشِه، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فشَكَا إِلَى حَيْوَةَ، فَقَالَ: أَنَا أَعْطَيْتُ رَبِّي بِيَقِيْنٍ، وَأَنْتَ أَعْطَيْتَه تجربةً.
وأخيرًا؛ مَن يتعامل مع الله بالإيمان معه اليقين لن يجني إلَّا الخير؛ روى مسلم في صحيحه، عن أُمِّ سلمة، أنها قالت: سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «ما من مسلم تُصيبه مصيبةٌ، فيقول ما أمره الله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا أخلف الله له خيرًا منها»، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لي بنتًا وأنا غيور، فقال: «أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة».
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
- التصنيف: