فتنة في مباراة أم مباراة في الفتنة؟!
وسواء كان كل ذلك من تدبير الأعداء ومكْرِهم بالأمة، أو كان بما كسبتْ أيدينا، فإن السعي لعلاج تلك الأدواء واجبٌ على كل من امتلك حظًّا من التأثير، ومتَّعه الله بشيء من القَبول لدى العامة، نسأل الله الهداية للجميع.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - مجتمع وإصلاح -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خير خلْق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه الأخيار الطاهرين.
وبعد:
فقد أطلعتْنا وسائل الإعلام على أنباء عن معارك وإصابات ودماء، وعن دعاوى للمقاطعة بكل أشكالها، وعن أزمات دبلوماسية وسياسية، وصلتْ إلى حدِّ التلويح بالحرب، وربما يظن البعضُ أنني أتحدَّث عن معركة عسكرية بين المسلمين واليهود، لكن الحقيقة المؤلمة أنني أتحدث عن تداعيات مباراة في كرة القدم بين فريقين لبلدين مسلمين!
لقد بدأ الأمر بفتنة من بعض المتعصبين؛ بسبب مباراة في الكرة، ثم تحوَّل الأمر بعد ذلك إلى مباراة في الفتنة، تقودُها شرذمةٌ ليس فيهم رجل رشيد، سعتْ بالإفساد وتأجيج نيران الفتن، غيرَ عابئةٍ بما قد يؤول إليه ذلك السلوكُ المَشين من نتائجَ وخيمةٍ لا تحمد عقباها، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الدعوة لشنِّ حربٍ تذكِّرنا بحروب أهل الجاهلية، التي جرتْ فيها أنهارُ الدماء؛ بسبب سباق للخيل، أو أبيات من الشعر.
لكن هذه التداعيات في الوقت ذاته كشفتْ لنا عن جملة من الأدواء الخطيرة التي ألمَّتْ بجسد هذه الأمة، والتي يجب أن نحرص على علاجها بكل سبيل، ومن هذه الأدواء:
1- إثارة النعرات والدعوات الجاهلية:
إن كل دعوى للتفريق بين المسلمين، وتعظيم جنس على غيره، فهي دعوى جاهلية، وهذه الدعوى منتنة، أمَرَنا الرسولُ الكريم أن نتركها وندعها؛ فعن جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - قال: "كنا في غزاة، قال: فكسع (أي: ضرب) رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما بال دعوى الجاهلية»؟ ، قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: «دعُوها؛ فإنها منتنة»[1].
إن التفاضل بين المسلمين يكون بالتقوى والعمل الصالح، لا بالأنساب والأحساب والأجناس والأنواع؛ قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس، إن ربَّكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضلَ لعربيٍّ على عجمي، ولا عجمي على عربي، و لا أحمر على أسود، و لا أسود على أحمر، إلا بالتقوى»[2].
2- نسيان حقوق الأخوة الإسلامية:
إن الأصل في العلاقة بين المسلمين أن تقوم على الإخاء والمحبة في الله - عز وجل - وهذه الأخوة الإيمانية لها حقوقٌ عظيمة؛ كما وضحها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: «لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا - عِبَادَ اللَّهِ - إِخْوَانًا، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»[3].
فإن وقع الخلاف، فإن واجب الجميع هو اللجوء لإصلاح ذات البَيْن، والتقريب بين الإخوة المسلمين؛ كما قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
3- هجر عقيدة الولاء والبراء:
إن من أسس العقيدة الإسلامية الولاءَ للإسلام وأهله، والبراءَ من الكفر وأهله، والولاء لا يتحقَّق إلا بالمحبَّة الخالصة، والنصرة الصادقة لكل من نواليه من المؤمنين، وهذا من أوثق عُرى الإيمان؛ كما قال الله - سبحانه -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].
وعن ابن مسعود قال: "دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا ابن مسعود»، قلت: لبيك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالها ثلاثًا، «تدري أي عُرى الإيمان أوثق» ؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن أوثق عرى الإسلام الولاية فيه، الحب فيه والبغض»[4].
4- اتباع الرويبضة:
كثيرًا ما تفتح أبواب الإعلام أمام بعض من يحظَوْن بالشهرة والاهتمام؛ لمجرد انتمائهم لحقل فني أو إعلامي أو رياضي؛ ليتحدثوا في قضايا الأمة العامة والخاصة، رغم أنهم غير مؤهلين للحديث في هذه القضايا؛ لافتقادهم المقومات العلمية والشرعية والثقافية، وهذا يذكِّرنا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما الرويبضة؟قال: «الرجل التافه في أمر العامة»[5].
وللأسف يتأثر البعض بما يُلقَى على سمعه في تلك الوسائل الإعلامية، خاصة حين يفتقدون العلم والوعي الذي يستطيعون من خلاله التفريقَ بين الغث والسمين، والصواب والخطأ، وبذلك تُشوه العقائد، وتُغيَّر الثوابت، وتزيَّف الحقائق.
5- عدم الحرص على اتِّباع شرع الله:
لقد أمرَنا الله - سبحانه وتعالى - إذا اختلفنا أن نرجع لحكم الله ورسوله؛ فقال - سبحانه -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].
لكن البعض تُعميه الفتنُ والاختلافات عن طلب الحقِّ، والاحتكام لأمر الله - تعالى - ويصبح همُّه الانتصار لنفسه، واتباع هواه، لا ابتغاء مرضاة الله.
6- عدم الالتفاف حول العلماء:
لقد أمرَنا الله - عز وجل - إذا أشكل علينا أمرٌ أن نسأل أهل العلم؛ لنسترشد بعلمهم، ونستضيءَ بما آتاهم الله من الهدى والفضل؛ فقال - سبحانه -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
ولكن إذا ترك الناسُ أهلَ العلم والذِّكرِ، فإنهم سيتَّخذون من الجهال رؤوسًا لهم، وبذلك سيضلُّون السبيل، وينحرفون عن الصراط المستقيم.
فعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لا يقبض العلمَ انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهَّالاً، فسُئلوا فأفتَوْا بغير علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا»[6].
ولذلك؛ فإن من الضروري ردمَ الفجوة الموجودة بين بعض عوام هذه الأمَّة وبين علمائها، بإيجاد وسائلَ إعلاميةٍ تحقِّق الوصلَ المفقود، وتُعيد للعلماء مكانتَهم الطبيعية، وتأثيرَهم المنشود في المجتمعات الإسلامية.
7- الفراغ الذي يعانيه شباب الأمة:
لقد كان شباب هذه الأمة في عهد سلفنا يعيشون في أجواء تسعى إلى توظيف طاقاتهم في ساحات الجهاد، وطلب العلم، والدعوة، وإصلاح المجتمع، وخدمة عموم المسلمين، وبذلك كانت هممُهم تعلو، وغاياتهم تسمو، ونفوسهم تكبُر.
لكن الشباب في عصرنا، في ظلِّ افتقادهم لهذه الأجواء، ورزوحهم بين مطرقة إعلامٍ فاجر وسندان تعليمٍ فاسد - صاروا يعانون حالةً من الفراغ تدفعُهم إلى التعلُّق بسفاسف الأمور، وشغل أنفسهم بالتَّفاهات، التي يجعلون منها قضايا عامةً، فيها يبدِّدون طاقاتهم، ويضيِّعون أوقاتهم، ويستهلكون قواهم بغير ثمرةٍ أو فائدة.
8- الهزيمة النفسية:
إن معاناة الأمة من السقوط على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي - قد أصاب البعضَ بحالة من الهزيمة النفسية، دفعتْه إلى الانبهار بالأعداء، والتراجعِ عن المبادئ، والبحثِ عن انتصارات وهميَّة تجبر كسرَ النقص الذي يشعر به، وتروي غليلَ الظمأ إلى النصر الذي يعانيه.
ومن هنا نرى كيف تحوَّلتْ مباريات الكرة إلى معركة، يصير الفوز فيها فتحًا تتعلَّق به القلوب، وتُنفَق فيه الأموال، ويلتفُّ حوله ملايينُ المساكين؟!
وسواء كان كل ذلك من تدبير الأعداء ومكْرِهم بالأمة، أو كان بما كسبتْ أيدينا، فإن السعي لعلاج تلك الأدواء واجبٌ على كل من امتلك حظًّا من التأثير، ومتَّعه الله بشيء من القَبول لدى العامة، نسأل الله الهداية للجميع.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه البخاري (4747)، ومسلم (4681).
[2] أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/ 100)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/88)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (2700).
[3] أخرجه البخاري (4525)، ومسلم (4650).
[4] الطبراني في الكبير (10531) وسنده حسن، انظر: "السلسلة الصحيحة" (1728).
[5] أخرجه أحمد (7571)، وابن ماجه (4026) وسنده صحيح، انظر: "السلسلة الصحيحة" (1887).
[6] أخرجه البخاري (98)، ومسلم (4828).
_______________________________________________
الكاتب: إيهاب كمال أحمد