أثر المعصية في الطاعة
هل يستوي الذي يقضي نهاره بذكر الله تعالى وحفظ نفسه من الذنوب والمعاصي، مع مَن يقضي نهاره بالكذب والغِشِّ والسبِّ والشتم واللعن والطعن بالأعراض ومعصية الله تعالى؟ لا والله لا يستوون.
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأُثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومنِ اتَّبَع سُنَّتَه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
في ذات يوم جاء رجل إلى سيدنا إبراهيم بن أدهم رحمه الله، فقال: يا أبا إسحاق، إني لا أقدر على قيام الليل، فصِفْ لي دواءً، فأجابه سيدنا إبراهيم رحمه الله قائلًا: لا تَعْصِهِ بالنهار وهو يُقيمُك بين يديه في الليل؛ فإنَّ وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحقُّ ذلك الشرف [1].
سيدنا إبراهيم رحمه الله يضعنا أمام حقيقة غابَتْ عن عقول الكثير من الناس اليوم، ويزيل الحيرة عنهم، فالكثير من الناس اليوم مَن يأتي إلى أهل العلم ويتساءل: لماذا أنا أُهيِّئ الأسباب لقيام الليل ولا أقوم؟ لماذا لا أستطيع أن أحافظ على صلاة الفجر في وقتها؟ لماذا لا أستطيع المحافظة على الصلاة في المساجد وفي أوقاتها؟ لماذا لا أستطيع المحافظة على قراءة القرآن؟ لماذا أشعر بقيود ثقيلة تَحُول بيني وبين الطاعات؟
كل هذه الأسئلة يجيب عنها سيدنا إبراهيم رحمه الله، فيقول: إن الذنوب والمعاصي هي السبب الرئيسي في منعِك من كل هذه الطاعات.
فالإنسان مِنَّا قد يُحرَم قيام الليل بسبب بعض المعاصي، ويُحرَم المحافظة على الصلاة في أوقاتها بسبب المعاصي، وقد يُحرَم الإعانة على الذكر والدعاء بسبب المعاصي.
ويؤكد هذا المعنى سيدنا الحسن البصري رحمه الله عندما جاءه رجلٌ يسأله عن أمْرٍ لطالما حيَّره، فقال له: يا أبا سعيد، إني أبيتُ معافًى، وأحب قيام الليل، وأُعِدُّ طهوري، فما بالي لا أقوم؟ لماذا لا أستيقظ لأداء صلاة الليل؟ فقال له سيدنا الحَسَن رحمه الله: ذنوبك قيدتك [2]، ذنوبك مثل الحبل تربطك فلا تقوى على الحركة.
هل عرَفتم السبب الرئيسي الآن؟ هل عرَفتم لماذا لا نستطيع الاستيقاظ لصلاة الفجر رغم أننا نُهيِّئ الأسباب للقيام؟ هل عرَفتم لماذا لا نستطيع المحافظة على الصلوات الخمس في المساجد وفي جماعة؟ هل عرَفتم لماذا لا نستطيع المحافظة على قراءة القرآن يوميًّا؟ السبب هو ذنوبُنا (ذنوبُك قيَّدَتْك).
لذلك بيَّن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أنَّ ما يُصيب الناس من بلاء إنما هو بسـبب أعمالهم، فقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]؛ أي: وما أصابكم أيها الناس من بلاء؛ كمرض وخوف وفقر، فإنما هو بسبب ما اكتسبتموه من ذنوب، وما اقترفتموه من خطايا، ويعفو سبحانه وتعالى عن كثيرٍ من السيئات التي ارتكبتموها، فلا يحاسبكم عليها رحمةً منه بكم [3].
ويقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ» [4].
أبواب السماء مُفتَّحة، فتجد أن الله تعالى يرزقك الصحة والعافية من باب، ويرزقك المال من باب، ويرزقك البركة من باب، ويرزقك بِرَّ الأولاد من باب، وصِلة الأرحام من باب، ويرزقك الهداية للصلاة والصيام والقيام من باب، فأنت عندما تصيب الذنب تسدُّ عليك بابًا من أبواب الرزق، وتصيب ذنبًا آخر فتسد بابًا آخر وهلُمَّ جرًّا، كُلَّما أذنبت ذنبًا فإنك تسدُّ بابًا من أبواب رزقك.
بعض الناس يقول لك: أنا لا أصلي، ولا أصوم، وأعمل المعاصي، ومع ذلك ربي يرزقني المال، كيف ذلك؟
اسمع يا مَن تُفكِّر بمثل التفكير إلى الجواب مِن فمِ الحَسَن البصري رحمه الله عندما جاءه رجل فقال له: إني أعصي الله وأذنب، وأرى الله يُعطيني ويفتح عليَّ من الدنيا، ولا أجد أني محرومٌ من شيء، فقال له الحسن: هل تقوم الليل؟ فقال: لا، فقال: كفاك أنْ حَرَمَك الله مُناجاته [5].
ويقول الحسن البصري رحمه الله: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحْرَمُ بِهِ قِيَامَ اللَّيْلِ"[6]، وقال الْفُضَيْلُ بن عياض رحمه الله: "إِذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ فَاعْلَمْ أَنَّكَ مَحْرُومٌ مُكَبَّلٌ كَبَّلَتْكَ خَطِيئَتُكَ"[7].
هل يستوي الذي يقضي نهاره بذكر الله تعالى وحفظ نفسه من الذنوب والمعاصي، مع مَن يقضي نهاره بالكذب والغِشِّ والسبِّ والشتم واللعن والطعن بالأعراض ومعصية الله تعالى؟ لا والله لا يستوون.
لقد كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم أقل مِنَّا ذنوبًا ومع ذلك كانوا يحاسبون أنفسهم محاسبةً شديدةً، ويلومونها على تقصيرها؛ بل كان الواحد منهم مَن يبكي بكاءً شديدًا؛ لأنه نام عن صلاة، أو أنه لم يقرأ وِرْدَه من القرآن، وكانوا يقولون: ما فاتَتْنا هذه الطاعة إلا بسببِ ذنوبِنا.
هذا واحد من السلف الصالح دخل عليه أصحابه فوجدوه يبكي، سألوه: ما يبكيك؟ هل من وجع يؤلمك؟ قال: أشد، قالوا: مات بعضُ أهلك؟ قال: أشد، قالوا: فقدْتَ مالَكَ؟ قال: أشد، قالوا: ما الذي أشدُّ من كل هذا؟! قال: نِمْتُ بالأمس ولم أقرأ وِرْدي، وما ذلك إلَّا لذنبٍ أذنبْتُه.
أنا أقف اليوم أيها الناس من أجل أن أقول لكم: لا بُدَّ لمَنْ أراد أن يحافظ على صلاة الفجر في وقتها أن يُحطِّم قيود ذنوبه، وذلك بالتوبة الصادقة، والرجوع إلى الله، والابتعاد عن الذنوب والمعاصي، ومحاسبة النفس على الصغيرة والكبيرة، لا بُدَّ على كُلٍّ مِنَّا أن يجلس مع نفسه جلسة محاسبة ويخاطبها: يا نفس، كفى ذنوبًا، كفى أكلًا للحرام، كفى غفلة، كفى هروبًا من المساجد، كفى هجرًا لكتاب الله تعالى، كفى عقوقًا للوالدين، كفى أذيَّة للجار، كفى أكلًا لحقوق الآخرين.
والله ذنوبنا هي التي جعلتنا نتثاقل عن صلاة الليل، ونتثاقل عن صلاة الفجر، وعن تلاوة القرآن، وعن أداء الصلاة في المساجد في أوقاتها.
فلا بُدَّ من التوبة والإنابة إلى الله تعالى، العين لا بُدَّ أن تتوب من النظر إلى الحرام، واللِّسان لا بُدَّ أن يتوب من الكلام في الحرام، والأُذُن لا بُدَّ أن تتوبَ من سماع الحرام، والبطن لا بُدَّ أن تتوبَ مِن أكل الحرام، واليدُ لا بُدَّ أن تتوبَ مِن البطش بالحرام، والرِّجْل لا بُدَّ أن تتوب من السير في طريق الحرام.
اجلس وحدَك قبل أذان الفجر بربع ساعة أو ثلث ساعة وتذكَّر هذه المعاصي والذنوب، وكرِّر الاستغفار لله منها، وأظهر النـَّدَم والتوبة على فعلها، وقـُـلْ من صميم قلبك ولسانك: أستغـفرُ الله، أستغفرُ الله، أستغفرُ الله، وستجد الله غفورًا رحيمًا، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» [8].
[1] تنبيه المغتربين، للشعراني، ص34.
[2] قوت القلوب في معاملة المحبوب، أبو طالب المكي: 1/ 75.
[3] التفسير الوسيط للقرآن الكريم، محمد سيد طنطاوي: 13/38.
[4] سنن ابن ماجه، كتاب الفتن- بَاب الْعُقُوبَاتِ: 2/ 1334، برقم (4022)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين، كِتَاب الدُّعَاءِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ: 1/ 670، برقم (1814)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، وحسَّن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: 4/ 187.
[5] فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب، محمد نصر الدين محمد عويضة: 1/ 665.
[6] المجالسة وجواهر العلم، أبو بكر الدينوري: 2/ 262.
[7] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني: 8/ 96.
[8] صحيح مسلم، كتاب التوبة- بَاب سُقُوطِ الذُّنُوبِ بِالِاسْتِغْفَارِ تَوْبَة: 4/ 2106، برقم (2749).
___________________________________________________
الكاتب: د. محمد جمعة الحلبوسي
- التصنيف: