في العلم وفضله
العلم صفة يميز المتصف بها تميزًا جازمًا، وقيل: هو إدراك الشيء بحقيقته، والعلم فضله أشهر من أن يذكر وهو أفضل من كل ما اكتسبه الإنسان وأشرف منتسب ...
العلم صفة يميز المتصف بها تميزًا جازمًا، وقيل: هو إدراك الشيء بحقيقته، والعلم فضله أشهر من أن يذكر وهو أفضل من كل ما اكتسبه الإنسان وأشرف منتسب وأنفس ذخيرة تقتنى وأطلب ثمرة تجتنى، به يتوصل إلى الحقائق وإذا عمل به الإنسان على وفق الشريعة أدرك رضا الخالق.
والعلم لا يوصل إلى معرفة فضله وجلالة قدره إلا بالعلم ولا يضيع صاحب العلم الديني الصحيح الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يفتقر كاسب العلم ولا يخيب طالبه ولا تنحط مراتبه ما دام مطبقًا لعلمه بالعمل ولا يجهل شرف العلم إلا الجاهل لقصور فهمه عن عظيم منافعه وكريم مواقفه، وحامله الصائن له عن الأدناس عزيز عند الناس إن قال فكلامه مرموق بعين التقدير وإن أمر فأمره مسموع.
وهو وسيلة للفضائل وهو نور زاهر لمن استضاء به وقوت هنيء لمن تقوت به ترتاح به الأنفس إذ هو غذاءها وتفرح به الأفئدة إذ هو قواها.
شعرا:
أجلُّ ما يبتغى دومًا ويُكتســـــب *** ويقتنَى من حُلى الدنيا وينتخبُ
علم الشريعة علمُ النَّفعِ قد رفعت *** لمن يزاوله بين الورى رُتــــــــــبُ
إنْ عاش عاش سعيدًا سائدًا أبدا *** لا يستضام ولا يشنا فيجتتــــــبُ
وإن يمت فثناء سائد أبـــــــــــدا *** وبعده رحمة تُرجى وتُرتقـــــــــبُ
وهو يدل على الخير، وعون على المروءة وهو الصاحب في الغربة والمؤنس في الخلوة، والشرف في النسب وللعلم آثار جليلة القدر كم جل به من حقير.
وكلما كان الرجل أعلم كان جليلا عندنا. مضى سلفنا الصالح العاملون بعلمهم الورعون الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم الذين إذا ذكروا وما قاموا به من نصر دين الله والدعوة إليه استنارت المجالس وأسفرت الوجوه وارتاحت الأنفس وقويت القلوب ونشطت الأبدان على الطاعات والعبادات وود المستمعون المحبون للدين وأهله أن يزدادوا من أخبارهم وسيرهم وذلك بما وهبهم الله من العلم الديني والتمسك به وآثاره الجليلة، وكانوا خير الناس بعد النبيين وكانوا أشجع الناس لأنهم علموا أن الأجل لا يطيله الجبن وكانوا أغنى العالم نفوسا وأقواهم توكلا على اللطيف الخبير لأنهم رضوا بقسمة مولانا العليم الحكيم، وكانوا محط رحال الكرم والجود لأنهم يعلمون أن البخل لا يرضي الله، وكانوا في الحلم كالجبال الراسيات لأنهم عرفوا ما للحلم من مزايا دنيا وأخرى. وكانوا يستقبلون البلايا بالصبر الجميل لعلمهم أنها بتقدير وتصريف الحكيم الخبير وكانوا دائما يستقبلون النعم بالشكر والحمد والثناء على الله لجزمهم أنها ليست منهم ولا من سائر المخلوقين بل من الكريم الدائم الإحسان الذي عم إحسانه الخلايق كلهم، وكانوا يحبون الخير لبعضهم كمحبتهم لأنفسهم عملا بقول الرسول الكريم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ولعلمهم أن كراهتهم لا تحدث أي تغير وقد عرفوا قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «يا غلام احفظ الله يحفظك» (الحديث رواه الترمذي).
وكانوا لا يحبون الشر وأهله وينهون عنه وينأون عنه.
وكانوا يراقبون مولاهم دائما ويعلمون أنه يعلم سرهم ونجواهم وأنه أحاط بكل شيء علما فلهذا كانوا إذا قالوا أو فعلوا تحروا ما يرضيه جل وعلا فيما يقولونه ويفعلونه وهكذا كانوا إذا أرادوا أن يتحركوا أو يسكنوا باستشارة ما وهبهم الله من العلم الديني يتحركون ويسكنون لهذا كانوا لليوم موضع إعجاب ونالوا فوق هذا رضى رب العالمين هكذا كانوا ببركات ما وهبهم مولاهم من العلم الديني والتمسك به تماما.
وكانوا أزهد الناس في الدنيا لأنهم يعلمون حقارتها وسرعة زوالها، وكثرة همومها وغمومها وإشغالها عن طاعة الله ولذلك كان الناس يقدرونهم ويضربون بهم الأمثال وأنت ترى أنه على قدر قناعة العلماء في الدنيا تكون مكانتهم في نفوس الناس والتفافهم حولهم والاستماع لنصائحهم والانقياد لإرشاداتهم والرجوع إليهم فيما يشكل عليهم وعلى قدر تعلق العلماء بالدنيا وتوجههم إليها تكون زهادة الناس في العلماء وعدم الثقة بهم واتهامهم والنفرة منهم وأكل لحومهم وعدم قبول كلامهم وإرشادهم ونصائحهم فلا يسمعون لهم قولا ولا يعولون عليهم في ما يجهلونه ويحرصون على البعد عنهم ويستثقلونهم والسبب الوحيد كما علمت أولا هو التعلق بالدنيا ضد ما عليه السلف الصالح.
قال بعض العلماء: اعلم أيها الإنسان أن الدنيا منزلة وليست بدار قرار والإنسان مسافر فأول منازله بطن أمه وآخر منازله لحد قبره، وإنما وطنه وقراره ومكثه واستقراره بعدها في هذا.
واختصر أحد العباد فقال: ما تأسفي على دار الهموم والأنكاد والأحزان والخطايا والذنوب، وإنما تأسفي على ليلة نمتها، ويوم أفطرته، وساعة غفلت فيها عن ذكر الله ثم مات رحمه الله.
وقال مطرف بن الشخير: إن هذا الموت نغص على النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيما لا موت فيه، فكيف ووراءه يوم يعد فيه الجواب وتدهش فيه الألباب، وتفنى في شرحه الأقلام والكتاب.
وقال غيره: كل سنة تنقضي من الإنسان فكالمرحلة. وكل شهر ينقضي منه فكاستراحة المسافر في طريق، وكل أسبوع فكقرية تلقاه. وكل يوم فكفرسخ يقطعه.
وكل نفس كخطوة يخطوها. وبقدر كل نفس يتنفسه يقرب من الآخرة وهذه الدنيا قنطرة فمن عمر القنطرة واستعجل بعمارتها فني فيها زمانه.
ونسي المنزلة التي هي مصيره ومكانه، وكان جاهلا غير عاقل.
وإنما العاقل الذي لا يشتغل في دنياه إلا لاستعداده لمعاده ويكتفي منها بقدر الحاجة ومهما جمعه فوق كفايته كان سما ناقعا ويتمنى أن تكون جميع خزائنه وسائر ذخائره رمادا وترابا لا فضة ولا ذهبا ولو جمع مهما جمع.
فإن نصيبه ما يأكله ويلبسه لا سواه وجميع ما يخلفه يكون عليه حسرة وندامة ويصعب عليه نزعه عند موته فحلالها حساب. وحرامها عذاب. إن كان قد جمع المال من حلال طلب منه الحساب.
وإن كان قد جمع من حرام وجب عليه العذاب. وكان أشد عليه من حسرته حلول العذاب في حفرته ومع هذا جميعه إذا كان إيمانه صحيحا سالما لحضرة الديان. فلا وجه ليأسه من الرحمة والرضوان. فإن الله جواد كريم غفور رحيم.
واعلم أن راحة الدنيا أيام وأكثرها منغص بالتعب مشوب بالنصب. وبسببها تفوت راحة الآخرة التي هي الدائمة والملك الذي لا نهاية له ولا فناء. فيسهل على العاقل أن يصبر في هذه الأيام القلائل لينال راحة دائمة بلا انقضاء.
شعرا:
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيلــــــــه *** ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لا يذل النفس في طلب العلى *** يسيرا يعش دهرا طويلا أخـــــــــــاذل
قال ابن القيم رحمه الله:
كل من أثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق ولاسيما إذا قامت له شبهة فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإذا كان ظاهرا لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته وقال لي: مخرج بالتوبة وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ﴾ [الأعراف: 169].
فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سيغفر لنا وإن عرض لهم عرض آخر أخذوه فهم مصرون على ذلك وهو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه يخالف ذلك أو لا يعلموا أن ذلك دينه وشرعه وحكمه فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه. قال وهؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل فيجتمع لهم الأمران فإن إتباع الهوى يعمي عين القلب فلا يميز بين السنة والبدعة أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات وهذه الآيات فيهم إلى قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175، 176]، فهذا مثل عالم السوء الذي يعمل بخلاف علمه.
وختاما: فإن العاقل اللبيب يتأسف على إهمال كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكتب أهل العلم والإيمان يبنى عليهما الغبار ويستبدل بهما قتل الوقت في ألوو كم باع فلان وكم شرى فلان وأين قضيت العطلة فيه وأين تقضي المستقبلة وارفع الجريدة وأعطني الأخرى وأين المجلة الفلانية وما الذي ظهر في التلفزيون وماذا بالإذاعة الفلانية هذا وأمثاله كثير من نواحي معلوماتنا معشر هذا الجيل يشب الواحد منا ويشيب وهو جاهل بسير سلفنا وتطبيقها والاقتداء بمن أمرنا سيدنا ومولانا بإتباعهم من رسله الكرام ومن اقتدى بهم وحذا حذوهم ونهج منهجهم ممن تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقهم مولاهم ينفقون، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] إلى آخر السورة.
____________________________
الكاتب: الشيخ عبدالعزيز السلمان
- التصنيف: