سد الذرائع وفتحها
اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج
- التصنيفات: الفقه وأصوله -
"لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسبابٍ وطرقٍ تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها؛ فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود"[1]، وقد اهتم العلماء قديمًا وحديثًا بوصف الذرائع، وتوسعوا في الأخذ بها سدًا وفتحًا في معظم أبواب الفقه، بل اعتبرها ابن القيم أحد أرباع التكليف[2].
وفي العصر الحديث كثرت المستجدات والنوازل خاصة في المعاملات المالية، ويتطلب هذا الأمر إبراز حكم الشرع في تلك القضايا بعد دراسة مآلاتها والطرق الموصلة إليها؛ لذلك أصبحت الحاجة إلى فقه الذرائع أكثر إلحاحًا[3].
المطلب الأول: تعريف الذرائع:
الذرائع في اللغة جمع ذريعة، وتطلق على الوسيلة[4]، فـ"الذال والراء والعين أصل واحد يدل على امتداد وتحرك إلى قدم، ثم ترجع الفروع إلى هذا الأصل"[5]، يقال: تذرع فلان بذريعة، أي توسل بوسيلة[6].
وللعلماء في تعريف الذرائع اتجاهان:
الاتجاه الأول: النظر إلى الذرائع من جهة سدها فقط، دون النظر إلى جانب فتحها، ومن ذلك تعريفها: بأنها "الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور"[ 7]. وأكثر العلماء على هذا الاتجاه، يعرفون الذرائع بمعناها الخاص بسدها[8]، قال ابن تيمية بعدما عرف الذريعة: "لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم"[9].
الاتجاه الثاني: النظر إلى الذرائع بمعناها العام؛ ومن ذلك تعريف القرافي، وابن تيمية، وابن القيم للذريعة: بأنها "ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء"[10].
وهذا الاتجاه في تعريف الذريعة هو المختار؛ لأنه يجمع بين نوعي الذريعة، فكما يجب سد الذرائع المفضية إلى المحرم، يجب فتح الذرائع المفضية إلى الواجب، قال القرافي: "واعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها...فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة"[11]. وقد اختار هذا الاتجاه في تعريف الذريعة عدد من المعاصرين[12].
سبق تعريف سد الذرائع في الاتجاه الأول، أما تعريف فتح الذرائع، فهو: "طلب الوسيلة الجائزة إذا كانت طريقًا إلى مصلحة راجحة"[13].
المطلب الثاني: أقسام الذرائع:
تنقسم الذرائع ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ذرائع معتبرة اتفاقًا؛ وهي ما تفضي إلى المقصود قطعًا[14]؛ كحفر الآبار في طرق المسلمين، وإلقاء السم في أطعمتهم[15]، فهذه يجب سدها، وكجلب البضائع إلى السوق[16]، وإنشاء البنوك الإسلامية لحفظ أموال المسلمين[17]، فهذه يجب فتحها.
القسم الثاني: ذرائع ملغاة اتفاقًا؛ وهي ما تفضي إلى المقصود نادرًا[18]؛ كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر، وأكل الأغذية التي غالب أصولها لا تضر[19]، فهذه لا يجوز سدها.
القسم الثالث: ذرائع مختلف فيها؛ وهي ما تفضي إلى المقصود كثيرًا[20]؛ كالتورق، فقد اختلف فيه العلماء بين من يسده، ومن يفتحه[21].
وهذا القسم موضع نظر والتباس عند العلماء[22]، والاختلاف فيه يرجع إلى تحقيق المناط الذي يتحقق به التذرع، وليس إلى أصل العمل بالذرائع[23]؛ وذلك بالنظر إلى مكان العالم، وعادات الناس في زمانه، فقد يختلف الإفضاء إلى المقصود كثرة وقلة، من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان.
ويلاحظ أن أكثر الأمثلة التي يذكرها العلماء للذرائع إنما هي في الذرائع إلى المحرم[24].
المطلب الثالث: مشروعية اعتبار الذرائع:
نص المالكية والحنابلة على أن اعتبار سد الذرائع أصلٌ من أصولهم[25]، قال أبو زهرة:"هذا أصل من الأصول التي أكثر من الاعتماد عليها في استنباطه الفقهي الإمام مالك رضي الله عنه، وقاربه في ذلك الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه"[26].
أما الحنفية، فلم ينصوا على اعتبارها من أصولهم، إلا أن من المقرر عندهم أن"الوسيلة إلى الشيء حكمها حكم ذلك الشيء"[27]، فهذا إعمال للذرائع في مذهب الحنفية، وقد أعملوها في فروعهم الفقهية[28]، فقد منعوا الشابة من الخروج للجماعات؛ "لأن خروجهن إلى الجماعة سبب الفتنة، والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام"[29]، ومنعوا المظاهر من لمس زوجته، وتقبيلها حتى يُكفّر؛ "لأنه لما حرم الوطء إلى أن يكفّر حرم الدواعي للإفضاء إليه؛ ولأن الأصل أن سبب الحرام حرام"[30]، وذكر الشاطبي أنه لا يلزم من خلاف أبي حنيفة في بعض التفاصيل"تركه لأصل سد الذرائع"[31].
أما الشافعية فقد نصوا على عدم اعتبارها أصلًا[32]، إلا أنهم أعملوها في فروعهم الفقهية[33]؛ فقد منعوا مباشرة الحائض ما بين السرة والركبة؛ قال السيوطي: "قال الأئمة: وإنما كان التحريم أحب؛ لأن فيه ترك مباح لاجتناب محرم"[34]. ومنعوا من قرض الجارية؛ لأن "تجويز ذلك يفضي إلى أن يصير ذريعة أن يطأها وهو يملك ردها...وفيه منع الذرائع"[35]، وجاء عن الشافعي:"وفي منع الماء ليمنع به الكلأ الذي هو من رحمة الله عام يحتمل معنيين: أحدهما:أن ما كان ذريعة إلى منع ما أحل الله لم يحل، وكذلك ما كان ذريعة إلى إحلال ما حرم الله تعالى، فإن كان هذا هكذا ففي هذا ما يثبت أن الذرائع إلى الحلال والحرام تشبه معاني الحلال والحرام...والمعنى الأول أشبه"[36]. وهذا النص من الشافعي يدل على اعتباره للذرائع، وقد حمل السبكي كلام الشافعي على"تحريم الوسائل، لا سد الذرائع، وأن الوسائل تستلزم المتوسل إليه"[37]، و لا يسلم له؛ لأنه بالرجوع إلى مصطلح الذريعة والذرائع عند الشافعي في كتابه الأم نجد أنه استخدمها ست عشرة مرة [38]، وكلها بالمعنى المعروف لها والذي يستخدمه غيره من المذاهب؛ مما يدل على أن المراد بها هنا الذريعة بمعناها المعروف. وعلى فرض التسليم فقد ذكر السبكي بعد كلامه السابق أن"الذريعة ثلاثة أقسام: أحدها: ما يقطع بتوصله إلى الحرام؛ فهو حرام عندنا وعند المالكية"[39]، فهذا دليل منه أن الوسيلة التي يقصدها قسم من أقسام الذريعة، وأن الشافعية يعتدون بأصل الذرائع، وإن اختلفوا مع غيرهم في الأقسام الأخرى للذريعة، وجاء عن السبكي في موضع آخر أن "الذرائع هي الوسائل"[40] وأنها "قد تكون واجبة، وقد تكون حرامًا، وقد تكون مكروهة، ومندوبة، ومباحة"[41]، فالوسائل التي ذكر السبكي عن الشافعي تحريمها هي الذرائع، أو قسم من أقسام الذرائع، وفيه دلالة على إعمالها في المذهب الشافعي.
وقد نقل الشافعي في الأم محاورة رجل له عن فروع أعمل الشافعي فيها الذريعة، وذكر الشافعي أن دليله القياس، ثم لما سأله الرجل: أفتقول بالذريعة؟ قال: لا. "ولا معنى في الذريعة، إنما المعنى في الاستدلال بالخبر اللازم، أو القياس عليه، أو المعقول"[42]، فالشافعي يُعمل الذرائع لكنه لا يجعلها دليلًا بل يستدل بأدلة أخرى؛ كالخبر، والقياس، والمعقول، والفقهاء الذين يستدلون بالذريعة لا تخرج أدلتهم عن هذه الأدلة التي ذكرها الشافعي، إلا أنهم، بدلًا من أن يقولوا في كل وسيلة تؤول لمحرم بأن الخبر، أو القياس، أو العقل، دلّ على أن للوسيلة حكم ما تؤول إليه، يقتصرون على النهي "سدًا للذريعة". فالنتيجة واحدة وهي إعمال الذرائع عند الشافعية وعند غيرهم، والتطبيقات الفقهية عند المذاهب الفقهية تدل على اعتبارهم للذرائع، وإن اختلفوا في المصطلح فلا مشاحة في الاصطلاح.
لقد تبين"أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة"[43]، والخلاف بين العلماء إنما هو اختلاف في المناط الذي يتحقق فيه التذرع[44]؛ قال القرافي:"فليس سد الذرائع خاصًا بمالك، بل قال بها هو أكثر من غيره، وأصل سدها مجمع عليه"[45].
والأدلة على اعتبار الذرائع كثيرة، وقد ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين تسعة وتسعين دليلًا على المنع من فعل ما يؤدي إلى الحرام، ولو كان جائزًا في نفسه[46]، ومن هذه الأدلة:
الدليل الأول: قول الله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [47].
وجه الدلالة من الآية: أن الله منع المؤمنين من سب آلهة المشركين، مع أنه حمية لله وإهانة لآلهتهم؛ لأن سب آلهتهم ذريعة إلى سبهم الله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة السب لآلهتهم، وفي هذا منع من المباح؛ لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز[48]، قال ابن عاشور: "وقد احتج علماؤنا بهذه الآية على إثبات أصل من أصول الفقه عند المالكية؛ وهو الملقب بمسألة سد الذرائع"[49].
الدليل الثاني: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [50].
وجه الدلالة من الآية: أن الله نهى المؤمنين من قول هذه الكلمة، مع قصدهم بها الخير؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبهًا بالمسلمين، ويقصدون بها سب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا غير ما يقصده المسلمون[51]؛ فهذا النهي"سدًا للذرائع، حتى لا يتخذ اللفظ المحتمل ذريعة لشيء قبيح"[52].
الدليل الثالث: قول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [53].
وجه الدلالة من الآية: أن الله نهى في هذه الآية عن القرب من مال اليتيم الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد للذريعة؛ لكيلا يتوصل إلى أكل مال اليتيم[54].
الدليل الرابع: عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"لَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَبْتَاعُونَ جِزَافًا -يَعْنِي الطَّعَامَ-، يُضْرَبُونَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ، حَتَّى يُؤْوُوهُ إِلَى رِحَالِهِمْ". (رواه البخاري[55].
وجه الدلالة من الحديث: أن في الحديث نهي المشتري عن بيع الطعام حتى يؤيه إلى رحله؛ لئلا يكون البيع ذريعة إلى جحد البائع البيع، وعدم إتمامه له إذا رأى المشتري قد ربح فيه، فيغره الطمع، وتشح نفسه بالتسليم[56].
الدليل الخامس: عن زينب، امرأة عبد الله بن مسعود، رضي الله عنهما، قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ الْمَسْجِدَ فَلَا تَمَسَّ طِيبًا» (رواه مسلم[57]).
وجه الدلالة من الحديث: أن في الحديث نهيًا للمرأة أن تتطيب إذا أرادت الخروج إلى المسجد؛ لأن ذلك ذريعة إلى ميل الرجال وتشوفهم إليها، فنهاها عن التطيب سدًا للذريعة، وحماية عن المفسدة[58].
الدليل السادس:أنه إذا "حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها؛ تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء"[59].
هذه بعض الأدلة على اعتبار الذرائع، وكلها في جانب سد الذرائع، والشريعة كما سدت ذرائع فتحت ذرائع أخرى، فقد عمدت إلى ذرائع المصالح ففتحتها بأن جعلت لها حكم الوجوب، وإن كانت ممنوعة، أو مباحة في الأصل، وهذا ما يلقب عند الأصوليين بما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب[60]؛ قال القرافي: "اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فوسيلة الواجب واجبة كالسعي للجمعة والحج"[61]. بل "قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار"[62]، والنظر إلى المخطوبة، وكلمة الحق عند سلطان جائر، ونحو ذلك[63]، قال ابن القيم: "فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم، أو استحبابه، أو إيجابه، بحسب درجاته في المصلحة"[64].
المطلب الرابع: العلاقة بين الذرائع والحيل:
تتفق الذرائع مع الحيل في أن كلًا منهما وسائل إلى تحصيل مقصود[65]، لكن الذرائع تفارق الحيل في قصد الفاعل[66]؛ فالذرائع تشمل الوسيلة التي قصد صاحبها تغيير الحكم الشرعي، والوسيلة التي لم يقصد صاحبها تغيير الحكم الشرعي[67]، أما الحيل فهي خاصة بما قصد صاحبها تغيير الحكم الشرعي بمهارة وحذق وخفاء[68]، قال ابن تيمية: "إن الحيلة تكون مع قصد صاحبها ما هو محرم في الشرع... وأما سد الذرائع، فيكون مع صحة القصد"[69]. "فالفرق بين الذرائع والحيل يتلخص في أن الذرائع أعم من الحيل، وأن وجه أهميتها هو أنها تشتمل المقصود وغير المقصود مما تفضي إليه، أما الحيل فتختص بالمقصود ابتداءً"[70].
وقد ذكر بعض الباحثين من الفروق بين الحيل والذرائع، أن الحيل تجري في العقود خاصة، والذرائع تعم العقود وغيرها[71]، ولا يُسلم له ذلك؛ فقد ذَكَرَ من أمثلة الحيل: "احتيال المسلم على هزيمة الكفار، كما فعل نعيم بن مسعود رضي الله عنه يوم الخندق[72]"[73]. وهذه الحيلة ليست في العقود، وكذلك الحيلة بالسفر في رمضان للفطر[74]، وقد ذكر ابن القيم حيلًا فقهية في المسح على الخفين[75]، والحج [76]، وهي ليست من العقود.
المطلب الخامس: ضوابط العمل بالذرائع:
بعدما تبين مشروعية اعتبار الذرائع وأهميتها، خاصة في الاجتهاد المعاصر؛ لما يشهده من كثرة في المستجدات والنوازل، فلا بد من ضوابط تضبط العمل بالذرائع حتى لا يحصل من جراء إعمالها تضييق على الناس، أو تجاوز لحدود المشروع، وهذه الضوابط:
1- أن تفضي الوسيلة إلى المقصود غالبًا، وألا يُبالغ في إعمال الذرائع؛ فإن "المبالغة في سد الذرائع، قد تحرم الناس من خيرات كثيرة، ومصالح كبيرة، كما أن المبالغة في فتحها قد تؤدي إلى شر مستطير، وفساد كبير"[77].
2- ألا يعارض العمل بالذرائع النص[78]؛ كالنهي عن صيام ست من شوال سدًا لذريعة ظن بعض الناس إلحاقها برمضان[79]، فإن ذلك معارض لنص الحديث الذي رواه مسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أنه حدثه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ»[80]. وكفتح ذرائع الربا بحجة أنه:"لا دولة بلا اقتصاد، ولا اقتصاد بغير بنوك، ولا بنوك بغير ربا"[81]، وبحجة إمداد بعض المنشآت الحكومية بزيادة رأس مالها بفائدة؛ ليتسع نطاق معاملاتها، وتكثر أرباحها، فينتفع العمال والموظفون، وتنتفع الحكومة بفاضل الأرباح[82]؛ فإن ذلك معارض لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [83]، ولغيرها من الآيات والأحاديث التي تنهى عن الربا.
3- ألا يعارض العمل بالذرائع المقاصد الشرعية[84]؛ فمن المقاصد الشرعية رفع الحرج، فلا ينبغي أن تسد ذريعة يلحق الناس حرج في سدها، ولا تفتح ذريعة يلحق الناس حرج في فتحها، فمراعاة المقاصد مقدم على مراعاة الوسائل، قال العز بن عبدالسلام: "الوسائل تسقط بسقوط المقاصد"[85].
4- ألا تُنقل الفتوى التي أُعملت فيها الذرائع من زمان إلى زمان آخر، أو من مكان إلى مكان آخر؛ لاختلاف عادات الناس وتغير أحوالهم، فما يكون إفضاؤه إلى المقصود كثيرًا أو غالبًا في زمان أو مكان قد يكون إفضاؤه في زمان أو مكان آخر قليلًا أو نادرًا؛ قال القرافي: "فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأَجْرِه عليه، وأفته به دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين"[86]، وقد عقد ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين فصلًا: "في تغيير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد"[87]، وقال في مقدمته: "هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به"[88].
هذه ضوابط العمل بالذرائع التي ينبغي من العالم والمجتهد مراعاتها قبل إعمال الذرائع سدًا وفتحًا.
[1] إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 108.
[2] المرجع السابق 3/ 126.
[3] انظر: المعاملات المالية المعاصرة وأثر نظرية الذرائع في تطبيقاتها، لأختر زيتي بنت عبدالعزيز، ص27.
[4] انظر: الصحاح، للفارابي 3/ 1211.
[5] معجم مقاييس اللغة، لابن فارس 2/ 350.
[6] انظر: لسان العرب، لابن منظور 8/ 96.
[7] المقدمات الممهدات، لابن رشد 2/ 39.
[8] انظر: أحكام القرآن، لابن العربي 2/ 331، الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 2/ 57-58، الموافقات، للشاطبي 5/ 183.
[9] بيان الدليل على بطلان التحليل، لابن تيمية، ص283.
[10] بيان الدليل على بطلان التحليل، لابن تيمية، ص283، إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 109. وانظر: شرح تنقيح الفصول، للقرافي، ص449.
[11] الفروق، للقرافي2/ 33.
[12] منهم: محمد أبو زهرة، ووهبة الزحيلي، وعبدالله الجديع.انظر: أصول الفقه، لمحمد أبو زهرة، ص253، أصول الفقه الإسلامي، للزحيلي 2/ 173، تيسير علم أصول الفقه، للجديع، ص203.
[13] قواعد الوسائل، لمصطفى مخدوم، ص366.
[14] انظر: الموافقات، للشاطبي 3/ 54.
[15] انظر: الفروق، للقرافي 2/ 32.
[16] انظر: أصول الفقه، لمحمد أبو زهرة، ص255.
[17] انظر: المعاملات المالية المعاصرة وأثر نظرية الذرائع في تطبيقها، لأختر زيتي بنت عبدالعزيز، ص85.
[18] انظر: الموافقات، للشاطبي 3/ 54.
[19] انظر: الفروق، للقرافي 2/ 32، الموافقات، للشاطبي 3/ 54.
[20] انظر: الموافقات، للشاطبي 3/ 54.
[21] انظر: الممتع، لابن عثيمين 8/ 219-221.
[22] انظر: قاعدة سد الذرائع وتطبيقاتها المعاصرة، بحث منشور في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، الصادرة من جامعة الكويت، السنة 26، العدد 87، 1433ه، ص158.
[23] انظر: اعتبار مآلات الأفعال وأثرها الفقهي، لوليد الحسين 1/ 328.
[24] انظر: أصول الفقه، لمحمد أبو زهرة، ص255.
[25] انظر:المقدمات الممهدات، لابن رشد2/ 39، شرح مختصر الروضة، للطوفي 3/ 214.
[26] مالك، لمحمد أبو زهرة، ص345.
[27] بدائع الصنائع، للكاساني 7/ 106.
[28] انظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، للزيلعي 1/ 352، فتح القدير، لابن الهمام 2/ 317.
[29] بدائع الصنائع، للكاساني 1/ 157.
[30] فتح القدير، لابن الهمام 10/ 47.
[31] الموافقات، للشاطبي 4/ 68.
[32] الأم، للشافعي 3/ 124.
[33] انظر:نهاية المطلب، للجويني 5/ 152، روضة الطالبين، للنووي 8/ 75.
[34] الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص106.
[35] البحر المحيط، للزركشي 8/ 94.
[36] الأم، للشافعي 4/ 51.
[37] الأشباه والنظائر، للسبكي 1/ 12.
[38] الأم، للشافعي 3/ 124، 4/ 51، 120، 121، 230، 232، 233، 6/ 149، 7/ 312.
[39] الأشباه والنظائر، للسبكي 1/ 12.
[40] تكملة المجموع، للسبكي 10/ 160.
[41] المرجع السابق.
[42] الأم، للشافعي 3/ 124.
[43] الموافقات، للشاطبي 5/ 185.
[44] تعليق الشيخ عبدالله دراز على الموافقات، للشاطبي 5/ 185.
[45] الفروق، للقرافي 2/ 33.
[46] انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 110-126.
[47] سورة الأنعام، الآية108.
[48] انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 110.
[49] التحرير والتنوير، لابن عاشور 7/ 431.
[50] سورة البقرة، الآية 104.
[51] انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 110.
[52] التفسير المنير، للزحيلي 1/ 258.
[53] سورة الأنعام، الآية 152.
[54] المحرر الوجيز، لابن عطية 2/ 362.
[55] كتاب البيوع، باب من رأى: إذا اشترى طعاما جزافا، أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله، والأدب في ذلك، برقم2137.
[56] إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 119.
[57] كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة، برقم443.
[58] انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 118.
[59] إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 109.
[60] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور، ص369.
[61] الفروق، للقرافي 2/ 33.
[62] المرجع السابق.
[63] انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 110.
[64] المرجع السابق 3/ 110.
[65] انظر: المعاملات المالية المعاصرة وأثر نظرية الذرائع في تطبيقها، لأختر زيتي بنت عبدالعزيز، ص107.
[66] انظر: أصول مذهب الإمام أحمد، للتركي، ص501.
[67] انظر: الفتاوى الكبرى، لابن تيمية 6/ 173.
[68] انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية 23/ 214-215.
[69] تفسير آيات أشكلت، لابن تيمية 2/ 682.
[70] الفروق في أصول الفقه، لعبداللطيف الحمد، ص443.
[71] انظر: فتح الذرائع وأثره في الفقه الإسلامي، لمحمد الطبقجلي، ص319.
[72] قصة نعيم بن مسعود رضي الله عنه يوم الخندق في تخذيل المشركين يوم الأحزاب ذكرها ابن هشام في كتاب السيرة النبوية 2/ 229، وابن القيم في زاد المعاد 3/ 244، وهي من القصص التي انتشرت ولم تثبت من الناحية الحديثية؛ قال الألباني في تخريجه لأحاديث كتاب فقه السيرة للغزالي: "ذكر هذه القصة ابن إسحاق بدون إسناد". انظر: فقه السيرة، للغزالي، ص236، ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية، للعوشن، ص170.
[73] فتح الذرائع وأثره في الفقه الإسلامي، لمحمد الطبقجلي، ص320.
[74] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، لابن عاشور، ص358.
[75] انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 287.
[76] المرجع السابق 3/ 272.
[77] الاجتهاد المعاصر، للقرضاوي، ص71.
[78] انظر: المعاملات المالية المعاصرة وأثر نظرية الذرائع في تطبيقاتها، لأختر زيتي بنت عبدالعزيز، ص169.
[79] انظر: الموطأ، لمالك بن أنس 3/ 447.
[80] كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعا لرمضان، برقم 1146.
[81] فتاوى معاصرة، للقرضاوي 3/ 430.
[82] الفتاوى، لشلتوت، ص305. وانظر: فوائد البنوك هي الربا الحرام، للقرضاوي، ص84. فقد نقل القرضاوي عن الشيخ شلتوت تراجعه عن الفتوى بإباحة عائد صندوق التوفير.
[83] سورة البقرة، الآية 275.
[84] انظر: المعاملات المالية المعاصرة وأثر نظرية الذرائع في تطبيقاتها، لأختر زيتي بنت عبدالعزيز، ص174.
[85] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للعز بن عبدالسلام 1/ 128.
[86] الفروق، للقرافي 1/ 176-177.
[87] إعلام الموقعين، لابن القيم 3/ 11.
[88] المرجع السابق 3/ 11.
_______________________________________________________
الكاتب: د. مرضي بن مشوح العنزي