من حق الصاحب: إقالة العثرة
محمد سيد حسين عبد الواحد
قال النبي عليه الصلاة والسلام " «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» ".
- التصنيفات: الآداب والأخلاق -
أيها الإخوة الكرام: من الأمور البدهية في هذه الحياة الدنيا أن يكون للإنسان صاحبا وخليلا..
ذلك أن الإنسان إنما سمي إنسانا لأنه يأنس بغيره، ومن هنا كان لكل إنسان صاحبا وخليلا..
قال النبي عليه الصلاة والسلام " «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» ".
حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم أصدقاء وأصحاب.. قال النبي عليه الصلاة والسلام " « مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ، يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ، وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ» "
وفي التنزيل الحكيم ذكر الصاحب في مواضع منها قول الله تعالي ﴿ {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا ۖ } ﴾
وفي سورة الكهف ﴿ {وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا } ﴾
كل صاحب له في ذمة صاحبة حقوق: منها صدق المحبة ومنها مداومة النصح ومنها دوام المناصرة ومنها دوام المصارحة ومنها التعاون ومنها التكافل.. قال النبي عليه الصلاة والسلام " «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ » ".
ومن حقوق الصاحب على صاحبه ( إقالة العثرات)
وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم " «أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ» ".
والعثرات: هي الأخطاء هى الزلات هى الهفوات التي تعكر الصفو بين الصاحب وصاحبه هذه الزلات وهذه الهفوات إذا توقفنا عند كل واحدة منها لن يبق للإنسان صاحبا ولا أنيسا ولا جليسا..
قال النبي عليه الصلاة والسلام " « مَنْ أَقَالَ عَثْرَةً أَقَالَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ".
والحكمة تقول لن نهدم جسورا من المودة والصداقة والألفة لأجل زلة من الزلات أو هفوة من الهفوات..
جَاءَ في مَوَارِدِ الظَّمْآنِ:
مَرَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ بِجَمَاعَةٍ قَدْ تَجَمْهَرُوا عَلَى رَجُلٍ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَشْتُمُونَهُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: مَا الْخَبَرُ؟
قَالُوا: رَجُلٌ وَقَعَ فِي ذَنْبٍ كَبِيرٍ.
قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ أَفَلَا تَكُونُونَ تَسْتَخرجُونَه مِنْهُ؟
قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: لَا تَسُبُّوهُ وَلَا تَضْرِبُوهُ، وِإِنَّمَا عِظُوهُ وَبَصِّرُوهُ، وَاحْمَدُوا اللهَ الذِي عَافَاكُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ذَنْبِهِ.
قَالُوا: أَفَلَا تُبْغِضُهُ؟
قَالَ: إِنَّمَا أُبْغِضُ فِعْلَهُ، فَإِذَا تَرَكَهُ فَهُوَ أَخِي؛ فَأَخَذَ الرَّجُلُ يَنْتَحِبُ وَيُعْلِنُ تَوْبَتَهُ..
ثم إن العصمة للأنبياء، وما سواهم عرضة للزلل والخطأ، وقديما قالوا لكل جواد كبوة ولكل صارم نبوة..
فاستروا ولا تفضحوا، وانصحوا ولا تشهروا قال النبي عليه الصلاة والسلام «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
ثم إن التماس الأعذار وإقالة العثرات منهج شرعي أتى واضحا صريحا في قول الله عز وجل في شأن يونس عليه السلام ﴿ {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ} ﴾ ﴿ { إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ} ﴾﴿ {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ} ﴾ ﴿ {فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } ﴾ ﴿ {فَلَوْلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } ﴾ ﴿ { لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ﴾ ﴿ {فَنَبَذْنَٰهُ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} ﴾ ﴿ {وَأَنۢبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} ﴾ ﴿ {وَأَرْسَلْنَٰهُ إِلَىٰ مِا۟ئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } ﴾ ﴿ {فَـَٔامَنُوا۟ فَمَتَّعْنَٰهُمْ إِلَىٰ حِينٍ} ﴾
هذه الآيات من سورة الصافات شاهد عيان على أن الله تعالى يلتمس أعذار عباده ويقيل عثراتهم..
﴿ {فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} ﴾ ﴿ {فَلَوْلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ} ﴾ ﴿ {لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ﴾
ورد عند تفسير هذه الآيات من سورة الصافات:
ورد أن الربيع بن أنس قال : لولا أنه كان ليونس عليه السلام قبل ذلك عمل صالح للبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون..
قال الربيع وما زال الكلام له : ومكتوب في الحكمة - إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر .
وقال الحسن : ما كان ل يونس صلاة في بطن الحوت ، ولكنه قدم عملا صالحا في حال الرخاء فذكره الله به في حال البلاء ، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه ، وإذا عثر وجد متكأ ..
فما أحوج الصاحب لأن يقيل عثرات صاحبه.. وإقالة العثرات هى مغفرة الزلات والتجاوز والتغاضي عن الهفوات.. وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم " «مَنْ أَقَالَ عَثْرَةً أَقَالَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ".
روى الإمام الطبراني وأبو نعيم في معرفة الصحابة، عن خوّات بن جبير قال: نزلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ الظَّهران (قرية قرب مكة)، فخرجت من خبائي، فإذا نسوة يتحدثن، فأعجبني حديثهن، فرجعت، فأخرجت حلّة لي من عَيبَتي، فلبستها، ثم جلست إليهنّ..
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبّته، فقال: "أبا عبد الله! ما يجلسك إليهنّ؟
قال: فهِبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول جملٌ لي شَرودٌ، أبتغي له قيدا.
قال: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبعته، فألقى إلي رداءه، ودخل الأراك (موضع في عرفات)، فقضى حاجته، وتوضأ، ثم جاء، فقال: "أبا عبد الله! ما فعل شِرادُ جملك؟" ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: "السلام عليكم أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟".
قال: فتعجلت إلى المدينة، فاجتنبت المسجد ومجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما طال ذلك علي تحيَّنتُ ساعة خلوة المسجد، فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره، فجاء، فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جلس، وطوَّلتُ رجاء أن يذهب ويدعني..
فقال: "طوِّل أبا عبد الله ما شئت، فلستُ بقائم حتى تنصرف"، فقلت: والله لأعتذرنَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبرئنَّ صدره، فانصرفتُ، فقال: "السلام عليكم أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟". فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذاك الجمل منذ أسلمت، فقال: "رحمك الله" مرتين أو ثلاثاً، ثم أمسك عنّي، فلم يعد.
هكذا كان رسول صلى الله عليه وسلم في دعوته لا يفضح أحدا ولا يشهر بأحد، وإنما يلتمس العذر ويقيل العثرة، ويتجاوز ، ويستر عورة المذنب، ويعينه على شيطان نفسه، ولا يجرح، ولا يثرب، ولا يواجه الإنسان بخطئه ـ طالما لا يحتاج الحال لذلك ـ وإنما نصح يصحح الطريق، ويقيم المعوج، ويرد الشارد، في أدب جم وذوق رفيع..
إن إقالة العثرة، خلق عال، ومعاملة كريمة تبني ولا تهدم، وتصلح واا تفسد، إنها أخلاق الدعاة كما ينبغي أن يتعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها..
الخطبة الثانية
بقى لنا في ختام عن ( إقالة العثرات) كحق من حقوق الصاحب على صاحبه.. تبقى معه المودة والمحبة والألفة، بقى لنا أن نقول:
مهما كانت الزلة، ومهما كان الخطأ، ومهما كان السبب في الخلاف بين المسلم وبين أخيه المسلم ففي الأحوال كلها لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض ذاك وخيرهما الذي يبدأ بالسلام..
ورد أَنَّ عَائِشَةَ رضى الله عنها حُدِّثَتْ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ( وهو ابن أختها أسماء)
بلغها أنه قَالَ فِي عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ وكانت عَائِشَةُ ( محبة للصدقة)
فقال عبد الله وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا.
فَقَالَتْ عائشة: أَهُوَ قَالَ هَذَا ؟
قَالُوا : نَعَمْ. قَالَتْ : هُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَنْ لَا أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا.
فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا حِينَ طَالَتِ الْهِجْرَةُ بينهما وهى ( خالته)، فَقَالَتْ : لَا وَاللَّهِ لَا أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا، وَلَا أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي. فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، كَلَّمَ ناسا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، وَقَالَ لَهُمَا : أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ ؛ فَإِنَّهَا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ قَطِيعَتِي.
فَأَقْبَلَ بِهِ الْرجلان مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا، حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَا : السَّلَامُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، أَنَدْخُلُ ؟
قَالَتْ عَائِشَةُ : ادْخُلُوا. قَالُوا : كُلُّنَا ؟ قَالَتْ : نَعَمِ، ادْخُلُوا كُلُّكُمْ. وَلَا تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا دَخَلُوا، دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ، فَاعْتَنَقَ عَائِشَةَ، وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي، وَطَفِقَ الرجلان يُنَاشِدَانِهَا إِلَّا مَا كَلَّمَتْهُ وَقَبِلَتْ مِنْهُ، وَيَقُولَانِ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الْهِجْرَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنَ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ، طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا وَتَبْكِي، وَتَقُولُ : إِنِّي نَذَرْتُ، وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ..
فَلَمْ يَزَالَا بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً، وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ فَتَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا..
العفو صفة الكرام، والتغافل والغاضي والتجاوز عن الهفوات صفة أصحاب النفوس الكبيرة، ومن أقال عثرات الناس أقال الله عثراته يوم القيامة..
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفتح لنا أبواب رحمته في الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك وهو على كل شيء قدير..