الفقر
كم من الناس اليوم من يعايش الفقر والذلة، ويعيش حياة المسكنة والقلة، يعيش مهموماً مغموماً متذمراً من تعقد الحياة وصعوبة الأوضاع وغلاء المعيشة، تحولت عنده الآمال إلى الآم، والأحلام إلى أوهام.
كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول في دعائه: «اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا اله إلا أنت. اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا اله إلا أنت».
استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الكفر والفقر، وقرن بين الكفر والفقر لأن الفقر إذا انتشر؛ انتشر الشر، فإن الفقير إذا عجز عن الشراء، أو لم يقوى في الديون على الأداء؛ فإنه سيلجأ إلى الجرائم وإلى الحرام، وعندها تنشأ الأنانية، وتظهر المشاكل الاجتماعية، وتزداد الحالات النفسية.
استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الكفر والفقر؛ لأن الفقر بريد الكفر، فإن المرء إذا افتقر انذلَّ، وإذا انذلَّ باع دينه، ومن باع دينه فقد مات وانتهى، وإن كان يعيش بجسمه بين الأحياء؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا قليل».
استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الكفر والفقر لأن الفقر سبب للهوان والذلة، ووسيلة من وسائل الضعف والقلة، فكم من الناس من ألجأهم الفقر إلى إذلال النفوس وطأطأة الرءوس، وكم من الناس من اضطروا اضطراراً إلى أن يهينوا أنفسهم ويمدوا أيديهم إلى غيرهم، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال».
استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الكفر والفقر لأن الفقير يعيش منبوذاً بين الناس، مهاناً بين الخلق، لا يُسمع له إذا تكلم، ولا يُزوَّج إذا تقدَّمن ولا يُؤبَه له ولا يُلتَفت إليه، ولهذا قال الله: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32].
عباد الله:
كم من الناس اليوم من يعايش الفقر والذلة، ويعيش حياة المسكنة والقلة، يعيش مهموماً مغموماً متذمراً من تعقد الحياة وصعوبة الأوضاع وغلاء المعيشة، تحولت عنده الآمال إلى الآم، والأحلام إلى أوهام.
كم من البيوت والأسر قد ضاق بها الحال، وانطفأت في قلوبهم الآمال، وجاع عندهم العيال، واشتدَّ عليهم المجال؛ فلا يستطيعون الحصول على الأشياء الضرورية إلا بمشقة فادحة وصعوبة بالغة.
كم من الناس من نزلت به نازلة أو أصابته مصيبة أو ألم به المرض؛ فلم يجد من المال ما يكفيه للعلاج في المستشفيات الحكومية - فضلاً عن المستشفيات الخاصة والأهلية - فيبقى الواحد منهم يمشي بمرضه، أو يجلس يئن في بيته، يصيح ويشتكي إلى الله، ويتعزَّى بقول الله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155].
عباد الله:
إن مشكلة المشاكل في هذا الزمان: أن تجد أناساً يعيشون في ترف وبذخ، يسكنون في القصور العالية والفلل الشاهقة، ويأكلون الأكلات الغالية، وآخرون لا يجد الواحد منهم قوت يومه ولا قيمة دوائه.
مشكلتنا: أن فينا أقلية يملكون كل شيء، ويتصرفون في كل شيء، وآخرون - وهم أغلب الناس - لا يملكون أي شيء، ولا يحق لهم إلا أن يقولوا سمعنا وأطعنا.
مشكلتنا: أننا نتبع النظام الاقتصادي العالمي الرأسمالي الفاسد، الذي يجعل الغني يأكل حتى يموت من الأمراض والسمنة والشبع، ويجعل الفقير يموت حسيراً كسيراً من القهر والفقر والهلع.
إن هذا النظام الفاسد يملأ قلوب الفقراء بالحقد على المسؤولين والأغنياء، ويدفعهم إلى التمرد وإثارة الفوضى؛ لأنهم يحسون بالإذلال واللأواء.
يقول أبو ذر رضي الله عنه: "عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه!".
كيف يفعل الفقراء أمام مشكلة الغلاء التي تؤرق مضاجعهم وتهدد معايشهم، فلا يستطيع الواحد منهم أن يشتري حليب أطفاله ولا قوت عياله؟!
كيف يفعل الفقراء الذين لا يجدون المأوى، ولا يستطيع الواحد منهم أن يبني بيتًا ولا أن يشتري أرضًا، فيعيش في بيوت الناس ومساكنهم مستأجرًا، يأكل الإيجار دخله ويشوِّش فكره؟!
كيف يفعل الفقراء وهم يرون الأثرياء وكبار الأغنياء يريدون أن يأكلوا ما تبقى، ويستحوذوا على الأعلى والأدنى؟!
كيف يفعل الفقراء أمام فواتير الماء والكهرباء التي لا ترحم أحداً، ولا تعرف مسكيناً ولا ضعيفاً ولا يتيماً ولا فقيراً؟!
إن هذه السياسة سياسة الإفقار في العالم الإسلامي - سياسة جوِّع كلبك يتبعك - سياسةٌ صهيونية وخطةٌ يهودية رسمها اليهود وطبقها في بلاد المسلمين عملاؤهم وأذنابهم، يريدون من ورائها تجويع المسلمين وإهانتهم، ونهب خيراتهم وأكل ثرواتهم؛ فدول العالم الإسلامي تتصدَّر قوائم الدول المنتجة للنفط والمعادن، ثم إذا بها تتصدَّر قوائم الدول الأكثر فقراً والأعظم تخلفاً وجهلاً، فيا للعجب؛ كيف تكون دولنا غنية بالنفط ثم تكون شعوبها هي أفقر شعوب الأرض؟!!! إنهم أعداؤنا يأخذون ثروتنا ثم يذبحوننا بها، وصدق الله إذ يقول عنهم: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 161].
عباد الله:
إن محاربة الفقر هي مسؤولية المسؤول، هي مسؤولية الدولة، فالحاكم مأمورٌ بإقامة العدل بين الناس وسد حوائجهم؛ يقول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. وقد أنزل الله في كتابه الكريم كثيراً من الآيات التي يحذر فيها من إهمال الفقير والمسكين أو أكل مال اليتيم: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26]، ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، ويقول عن حال أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 42-44].
فالحاكم: إما أن يكون أداة بناء، يساهم في تخفيف العناء، ويكسر حدة الغلاء، وإما أن يكون معول هدم، يزيد من معاناة المحتاجين والفقراء. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُقْ عليه، ومن وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به».
إن الحاكم في شريعة الإسلام لا يجوز له أن يزاحم الناس في أرزاقهم، ولا أن ينافسهم في أسواقهم، وإنما مهمته العظمى بعد إقامة الشرع والعدل أن يتلمس أحوال الناس؛ فيعين الضعيف، ويساعد الفقير، ويمد يده إلى المحتاج.. هذه مهمته وهذه مسئوليته. إنها مسئولية عظيمة، بكى منها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه؛ فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "أخاف أن يسألني الله عن دابة عثرت في أرض بغداد؛ فيقول لي: لم تسوِّ لها الطريق يا عمر؟".
كما أن على التجار أن يقدّروا شعور الناس، ويراعوا أحوالهم، ويحسبوا حسابهم، وأن يضعوا نصب أعينهم وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم: «يا معشر التجار..»، بهذا النداء رفع المصطفى صلى الله عليه وسلم صوته، فاشرأبت أعناقهم استجابةً لنداء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: «إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا، إلا من اتقى وبر وصدق». (رواه الترمذي، وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة") .
كما أن عليهم أن يتحروا في صدقاتهم وزكواتهم، وأن يخرجوها الإخراج الصحيح الذي أمر الله به، وأن يسلِّموها إلى مستحقِّيها الذين سماهم الله في القرآن فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
يقول ربنا سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].
عباد الله:
إن ربكم تبارك وتعالى قدَّر المقادير وقسَّم الأرزاق وكتب الآجال، وجعل عباده متفاوتين في ذلك فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 30]، ويقول سبحانه {وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} [النحل: 71].
فالله سبحانه وتعالى يبتلي عباده بالخير والشر: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
فلنحمد الله على كل حال.. «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر وكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له».
ولنحذر من سخط الله وعقابه، فإن قوم سبأ قد أنعم الله عليهم بالأرزاق الكثيرة والخيرات الكبيرة، وساق عليهم النعم الوفيرة، وجعل لهم جنتَيْن عظيمتَيْن، يأكلون من ثمارها من غير كدٍّ ولا تعب، حتى كانت المرأة منهم تضع وعاءها على رأسها وتمشي في مزرعتها؛ فيتساقط الثمر في الوعاء لنضجه واستواءه!! لكنهم لم يحمدوا الله، وكفروا بأنعم الله، فأرسل الله عليهم سيل العَرِم؛ ففرقهم ومزَّقهم كل ممزّق.
إذا كنت فِي نعمة فارعها ** فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد ** فرب العباد سريع النقـــم
وليعلم كل فقير ومسكين أنه يوجد في الدنيا من هو أفقر منه وأسوأ حالاً من حاله، فليخفض بصره ولينظر إلى من هو دونه؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم»؛ (رواه مسلم) .
فالقناعة كنزٌ، إذا دخلت قلب العبد امتلأ راحة وطمأنينة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، و«كن قانعًا تكن أشكر الناس».
يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه".
ويرحم الله من قال:
خذ القناعة من دنياك وارض بِها ** لو لَم يكن لك منها إلا راحة البدن
وانظر لمن حوى الدنيا بأجْمعهـا ** هل راح منها بغير القطن والكفـن؟!
وعلى المسلم أن يتحسس أخاه المسلم، وأن يعينه ما استطاع؛ فإن الله قد أمرنا بالتعاون والتآزر والتلاحم والتناصر فقال: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما آمن به من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم.
هذا ما يجب علينا عباد الله: أن نرضى بما قسم الله، وأن نتجنب سخط الله، وأن نقنع باليسير حتى يأتينا الكثير، وأن نتآزر ونتناصر؛ لأننا في زمن انشرخت فيه العلاقة بين السائل والمسؤول، وصار الراعي فيه في وادٍ والرعية في وادٍ آخر.
هذا ما يجب علينا عباد الله عندما تذهب الملايين - بل المليارات - في ما لا يسمن ولا يُغني من جوع باسم الثقافة والرياضة والفن وبناء الحدائق والمنتزهات والملاعب.
تموت الأسد في الغابات جوعاً ** ولحم الضأن تأكله الكلاب
وعبد قد ينام على حريـــــــــر ** وذو نسب مفارشه التراب
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهرٍ فليعُدْ به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زادٍ فليعُدْ به على من لا زاد له».
_______________________________________________
الكاتب: د. مراد باخريصة
- التصنيف: