عقيدة سمحة ودين يسر
العقيدة الصحيحة هي الأساس الذي يقوم عليه الدين، وتصح معه الأعمال، وجوهر العقيدة الإسلامية
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
العقيدة الإسلامية: هي ما يجب أن يعقِدَ عليه المسلم قلبه، ويصدقه تصديقًا جازمًا؛ كالإيمان بالله وما يجب له في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبكل ما جاءت به النصوص الصحيحة من أصول الدين.
فالعقيدة الصحيحة هي الأساس الذي يقوم عليه الدين، وتصح معه الأعمال، وجوهر العقيدة الإسلامية هو التوحيد، والعلماء اتخذوه عنوانًا لعلم العقائد كلها؛ تنبيهًا على أهميته، وتذكيرًا بمنزلته، وعندما جاءت هذه العقيدة موافقة للفطرة التي فطر الله الناس عليها، كانت سَمْحَة ميسَّرة للفهم، لا تستعصي على الصغير ولا الكبير، ويدركها ويقنع بها العامي والمثقف.
ولقد غفل كثير من الدعاة اليوم عن تعليم العقيدة الصحيحة للناس، ولم يجعلوها في أولويات دعوتهم، كما كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل صوروها للناس على أنها مباحث شائكة، ومادة علمية معقدة، تحتاج إلى شيوخ متقنين لشرح تفاصيلها، وبيان غوامضها، وطلاب أذكياء يستوعبون دروسها، ويحسنون تلقيها، وما ذلكم إلا بسبب العدول عن أخذها من مصادرها الأصلية؛ كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والرجوع فيها إلى كتب المتكلمين، وآراء الفلاسفة ونظرياتهم.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم معاذًا أهم دروس العقيدة، وهما يركبان حمارًا؛ يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: ((كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يُقال له عُفَير، فقال: «يا معاذ، هل تدري حق الله على عباده، وما حق العباد على الله» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله ألَّا يعذب من لا يشرك به شيئًا» ، فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشِّر به الناس؟ قال: «لا تبشرهم، فيتكلوا»؛ (رواه البخاري).
وفي درس آخر يردف خلفه صلى الله عليه وسلم على بغلته غلامًا صغيرًا، ويلتفت إليه، ويعلمه كلمات تجمع أصول الدين وقواعده.
يقول لابن عباس: «يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّتِ الصحف»؛ (صحيح الترمذي).
فانظر بالله عليك سهولة مسائل العقيدة التي توافق ما فطر الله الناس عليه، وتأمل اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتأصيل أصحابه عليها، فها هو يجمع المواعظ الجمة، والوصايا الجامعة، وأهم مسائل العقيدة، وتوحيد العبادة والطلب، والإيمان بالقدر، وحسن التوكل على الله عز وجل، في الكلام القليل، ويعلمه لغلام صغير لم يبلغ الحُلُم بعدُ.
ثم بعد ذلك يروي الغلام روايته، ويتناقلها الناس جيلًا بعد جيل، لتكون هذه الكلمات قواعدَ يبني عليها أهل السنة دينهم.
ما أعظم هذه العقيدة! وما أيسر أن تأخذ قواعدها وأصولها - أخي المسلم - من نبعها الصافي! وما أهم أن تجعلها - أيها الداعية - من أولويات دعوتك وركائزها، كما كان هدْيُ المعلم الأول عليه الصلاة والسلام، الذي أرشد سفراءه ورسله أن يبدؤوا بدعوتهم بالعقيدة، قبل الأمر بما أوجب الله عليهم من العبادات؛ لأنها إن استقرت في النفس، وعقد عليها القلب، سهل على الجوارح أن تنقاد بالطاعات لله عز وجل مهما كانت!
فعن عبدالله بن عباس: «لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى أهل اليمن، قال له: إنك تقدُمُ على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا، فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاةً في أموالهم، تُؤخذ من غنيِّهم فَتُرَدُّ على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوقَّ كرائم أموال الناس...»؛ (صحيح البخاري).
وإن تعجب فعجبٌ أن تجد شيوخًا لهم سمعة، ومكانة، ومظهر، يتحاشون الكلام في أصول الدين وأسهل مسائل العقيدة، إن سُئل عنها أحدهم ارتبك، وصار يبحث عن مخرج ليهرب من هذه الورطة، وينجو من هذه المحنة، فلو سُئل - مثلًا - عن صفات الله تعالى التي تكرر ذكرها كثيرًا في القرآن والسنة، لأجابك بكلام لا يفهمه هو نفسه، غير معقول ولا منقول؛ مع أن الله تعالى قال ببيان ووضوح: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
ولو سُئل عن الأناشيد المنتشرة التي فيها الاستعانة بغير الله، أو طلب المدد من الأموات، لأجابك مثلما أجاب الجاهليون الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، مع أنهم يقرؤون في اليوم والليلة أكثر من عشرين مرة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ويحفظون وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله...».
فوالله، إنها الهداية والتوفيق من الله تعالى لها؛ لذلك أوجب الله علينا الدعاء بها دائمًا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7]، وقد عرَّفهم الله تعالى في سورة النساء بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69، 70]، فهؤلاء الذين لا يطيعون الله والرسول، بل يسلكون طرق الضلالة والغي، ويعظمون أولياء الشيطان من كل ميت وحي، دينهم ومذهبهم اتباع الهوى، فغناء، ورقص، ومعازف، وطرب، أنى لهم الرشد والهداية؟
لا يغضبون لله مهما انتُهكت محارمه، وحُورب دينه وشرعه، لكنهم يعترضون ويغضبون إن تجرأت مرةً على (الشيخ)، وسألته عن دليل مسألة ما، أو إن استنكرت شطحة من شطحات القوم التي ينكرها أصغر طالب علم، بل كل صاحب فطرة سليمة.
وإن أردت أن تمتحن هؤلاء، وتتأكد أن الجهل بلغ بهم أنهم لا يعرفون شيئًا عن صفات ربهم، فاسأل أحدهم سؤالًا من كلمتين: أين الله؟ وانظر كيف يتأول الحديث الصحيح الصريح، وماذا يهرف، وكيف يشطح ويخرَف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم امتحن إيمانَ جارية صغيرة بهذين السؤالين: «أين الله» ؟ قالت: في السماء، قال: «من أنا» ؟ قالت: أنت رسول الله، قال لسيدها: «أعتقها، فإنها مؤمنة»؛ (رواه مسلم).
فجارية ترعى الغنم، تربت في مدرسة النبوة، أعلم بربها من كثير من أدعياء العلم الذين أضاعوا عمرهم بدهاليز علم الكلام، ومذاهب الفلاسفة.
نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن إمام الحرمين الجويني أنه قال عند موته: "لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهَوني عنه، والآن إن لم يتداركني الله برحمته فالويل لفلان، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي".
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "حكمي في أصحاب الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويُحملوا على الإبل، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، يقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام".
وهذا الرازي الذي انتشرت تواليفه في البلاد شرقًا وغربًا، وقد بدا منها بلايا وطامات - كما قال عنه الذهبي رحمه الله - يقول عنه الشنقيطي في أضواء البيان: "واعلم أيضًا أن الفخر الرازي الذي كان في زمانه أعظم أئمة التأويل رجع عن ذلك المذهب إلى مذهب السلف، معترفًا بأن طريق الحق هي اتباع القرآن في صفات الله".
وقد قال في كتابه (أقسام اللذات): "لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فلم أجدها تروي غليلًا، ولا تشفي عليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]، وفي النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65]، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي".
من هنا؛ فإني أنصحك - أخي المسلم - إن أردت أن تلقى الله تعالى بعقيدة صحيحة، وقلب سليم أن تأخذ الكتاب بقوة، وأن تفتح قلبك للقرآن حين تقرؤه، فتتدبر آياته، وتتعلم من أهل العلم أحكامه وحكمه، وتنهل من مَعِينه، وتستكثر من خيراته وبركاته؛ {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
فالله عز وجل لم يحكر فهمه على العباقرة من البشر، بل أنزله على أمة أمية، وجعل أمَّ الكتاب وأصول الدين في آيات محكمات لا تحتمل التأويل، وعليك بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهي صنو الكتاب، وقد جاءت مبينة لمجمله، ولا يستغني عنها إلا هالك؛ قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]؛ أي: لتوضح لهم ما يحتاج إلى توضيح من الكتاب.
واربط فهمك له دائمًا بفهم خير القرون من الصحابة وسلف هذه الأمة، ففيهم نزل، وهم أعلم بمراد الله منه، خُذ ما أخذوه من نبيهم، وقِف حيث وقفوا، واحذر من اتباع غير سبيل المؤمنين، واجتنب طرق أهل الكلام ومذاهب الفلاسفة الضالين، والزم طريق الراسخين في العلم وأئمة الهدى والدين؛ فهُمْ ورثة الأنبياء، ولا تحِدْ عنه فتضلَّ وتهلِكَ.
وإن هُديت إلى الحق، "فاتبع طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين"، ولا تغرنَّك ألقاب أو عمائم أو شهادات من جهل أصول الإيمان، وأسس العقيدة الصحيحة، وغرق ببحر علم الكلام، أو زين له الشيطان سوء عمله، فصار يتعبد الله بالهوى، ويتشفع إليه بالأولياء والأبدال وأصحاب القبور، ويتخبط بأنواع البدع والشركيات، وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، ثم يجادل عن دينه بالباطل، ويتهم أئمة أهل السنة بصنوف التهم، ويشق على الناس أمر دينهم فيما لا تهواه نفسه، ولا يدركه عقله؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا ويسروا»؛ (صحيح النسائي).
واسألِ الله دائمًا الهدى والسداد، والتوفيق والرشد والثبات؛ فهو من الله وحده؛ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، وادْعُ الله دائمًا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53].
________________________________________________
الكاتب: محمد بديع موسى