الذنوب والمعاصي طريق التعاسة والشقاوة
إن للذنوب والمعاصي آثارًا وعواقبَ، فما تهدمت الشعوب ولا فسدت القلوب، ولا خربت الأُسر إلا من الذنوب، وما بُخست الأرزاق، ولا قست القلوب، ولا جفَّت العيون إلا من الذنوب، وما غضب الجبار، وما أُقيمت النار وما نُصب الصراط، وكان هناك حساب وعقاب إلا مع الذنوب والمعاصي.
إن للذنوب والمعاصي آثارًا وعواقبَ، فما تهدمت الشعوب ولا فسدت القلوب، ولا خربت الأُسر إلا من الذنوب، وما بُخست الأرزاق، ولا قست القلوب، ولا جفَّت العيون إلا من الذنوب، وما غضب الجبار، وما أُقيمت النار وما نُصب الصراط، وكان هناك حساب وعقاب إلا مع الذنوب والمعاصي.
تَفنى اللذاذةُ ممن نال صَفوتها ** من الحرام ويبقى الإثمُ والعارُ
تبقى عواقبُ سوءٍ من مغبَّتها ** لا خيرَ في لذة من بعدها النارُ
أوَّل آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها، الضيق والهم والحزن والغم والأسى واللوعة، يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، فنجد من سكن القصور الشاهقة، وركب السيارات الفارهة، وجلس على الموائد الشهية، ولكنه مُصِرٌّ على معصية الله، فلا يجد الراحة ولا السعادة ولا الطُّمأنينة، بل يجد التعاسة والشقاوة؛ لأنه عصى الله سبحانه وتعالى.
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها: حرمان الرزق، وحرمان الرزق على قسمين: حرمانه أصلًا ووجودًا، وحرمانه بركة ونورًا.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما: (إن للحسنة بياضًا في الوجه ونورًا في القلب، وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه وظلمة في القلب، وضيقًا في الرزق، وبغضًا في قلوب الخلق)، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ} [الأعراف:91]، ويقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3].
جاء في تفسير هذه الآية أنها نزلت في مالك بن عوف لَما أسره الكفار والمشركون في مكة، فأنقذه الله من الأسر وجاء إلى المدينة وهو يجر وراءه قطعان الإبل والأغنام غنيمة من المشركين بفضل الإيمان والتقوى.
وهذا عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الذي أسَّس دولته على الإيمان والتقوى، فلم يُبْقِ في عهده فقيرًا ولا مسكينًا ولا عزبًا ولا رقيقًا، مات عمر بن عبد العزيز وخلَّف بعده خمسة عشر ولدًا، دخل عليه أصحابه يعودونه وهو في مرض الموت، فقالوا له: ماذا تركت لأبنائك، قال: تركت لهم تقوى الله، إن كانوا أبرارًا فالله يتولى الصالحين، وإن كانوا فجارًا فلن أعينهم بمالي على الفجور.
وأما الخليفة هشام بن عبد الملك، فخلَّف لكل واحد من أبنائه مائة ألف دينار من الذهب، ولكنه ما خلَّف لهم طاعة الرحمن ومخافة الديان، فماذا كانت النتيجة بعد عشرين سنة، قال أهل التاريخ: أصبح أبناء عمر بن عبد العزيز يسرجون الخيول في سبيل الله منفقين متصدقين من كثرة أموالهم، وأما أبناء الخليفة هشام بن عبد الملك، فأصبحوا في عهد أبي جعفر المنصور يقفون في مسجد دار السلام، ويمدون أيديهم ويقولون: من مال الله يا عباد الله، فهذا هو حرمان الرزق.
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها: قسوة القلب أو موته، يقول سبحانه وتعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74].
ويقول سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل لما عصوا الله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13].
وإذا مات القلب تبلَّد الإحساس، فلا يشعر صاحبه بأي ذنب أو معصية.
من يهن يسهل الهوانُ عليه ** ما لِجُرحٍ بميِّت إيلامُ
في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله يقول: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مُجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه».
يقول عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تُميت القلوب ** وقد يورث الذلَّ إدمانُها
وترك الذنوبِ حياةُ القلـوب ** وخيرٌ لنفسك عصيانُهــا
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها: البغض في قلوب الخلق، والحب هبة من الله سبحانه يقسم كما تقسم الأرزاق من فوق سبع سماوات، فالقبول من الله تعالى وحده؛ أخرج الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باب المقت من الله، أي الحب والقبول من الله تعالى وحده، ثم أورد حديث رسول الله: «إذا أحبَّ الله العبد قال لجبريل: إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، قال: فيحبونه، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد قال لجبريل: إني أبغض فلانًا فأبغضه فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغض في الأرض».
الحب والقبول لا يكون إلا إذا استقام العبد على طريق الله سبحانه وتعالى.
يقول أبو الدرداء: (لو أطاع طائع ربه وراء سبعة أبواب، لأخرج له أثر طاعته على الناس، ولو عصى عاص ربه وراء سبعة أبواب، لأخرج الله آثار معصيته للناس).
يقول أحد السلف: (إني لأعصي الله، فأرى أثر ذلك في خلق زوجتي وابني).
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها: نسيان العلم؛ يقول سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه} [البقرة: 282]، ومعنى الآية أن من لم يتَّق الله لا يعلمه الله سبحانه وتعالى العلم النافع، فأعظم أسباب تحصيل العلم تقوى الله سبحانه وتعالى.
قال ابن الجلاد: نظرت منظرًا لا يحل لي، فقال لي أحد الصالحين: أتنظر إلى الحرام، والله لتجدنَّ غبَّه ولو بعد حين، قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وكيع بن الجراح شيخ الإمام الشافعي عليه رحمه الله الذي كان يقول:
أُحبِ الصالحين ولستُ منهم ** لعلي أن أنال بهم شفاعــهْ
وأكْرَه من تجارته المعاصــي ** وإن كنَّا سواءً في البضاعهْ
فيرد عليه الإمام أحمد ويقول له:
تُحب الصالحين وأنت منهم ** ومنكم قد تناوَلنا الشفاعهْ
يأتي الإمام الشافعي إلى شيخه وكيع ويقول له: يا إمام، ما أحسن دواء للحفظ؟ قال: والله ما رأيت دواء للحفظ مثل ترك المعاصي، فأنشد الشافعي قائلًا:
شكوتُ إلى وكيع سوءَ حفظي ** فأرشَدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلَم بأن العلم نــــــــورٌ ** ونورُ الله لا يؤتى لعاصـــــي
ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها: ضياع العمر، والعمر هو حياة الإنسان وهو أغلى شيء وأثمن شيء، فإذا ضيعه الإنسان فقد خسر الدنيا والآخرة، يقول سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37].
فالعمر إذا فات لن يعوض، وكل شيء يمكن تعويضه إلا العمر، فما من يوم جديد ينبثق فجره إلا وينادي ويقول: يا بن آدم، أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فتزوَّد مني فإني إن ذهبت لا أعود إلى يوم القيامة.
نسير إلى الآجال في كل لحظـــــةٍ ** وأيامنا تُطوى وهن مراحــــــــلُ
ولم أرَ قبل الموت حقًّا كأنـــــــــــه ** إذا ما تخطَّتْه الأماني باطـــــــلُ
وما أصبَح التفريطُ في زمن الصِّبا ** فكيف به والشيبُ للرأس شاعلُ
ترحَّل من الدنيا بزادٍ من التُّقـــــى ** فعمرُك أيام وهنَّ قلائــــــــــــــلُ
إخوة الإسلام، أحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن آثار الذنوب والمعاصي وعواقبها: عدم استجابة الدعاء، وقد ذكر الرسول: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك» ؟!.
كيف نرجو من الله عز وجل إجابة الدعاء ونحن ما زلنا مصرين على الكبائر من الذنوب، وكيف نرجو من الله عز وجل إجابة الدعاء ونحن متهاونون بالصلوات الخمس، معرضون عن بيوت الله، متنكِّبون عن مساجد الله، وكيف نرجو من الله عز وجل إجابة الدعاء ونحن نأكل أموال الناس بالباطل، مصرون على أكل الربا وعلى التعامل بالربا، وعلى أكل الرشوة، والرسول يقول: «أطِبْ مطعمَك، تُستجب دعوتك».
فعلى العبد ألا ينظر إلى صِغر المعصية والذنب، ولكن ينظُر إلى عظمة من يعصي، إلى عظمة الخالق جل في علاه.
والإصرار على الصغيرة يحولها إلى كبيرة كما قال العلماء، فلا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار، يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المائدة:135].
ويقول عليه الصلاة والسلام: «إن الشيطان يئس أن يُعبد في جزيرة العرب، ولكن رضي منكم بما تَحقرون من الذنوب».
فإياكم ومحقرات الذنوب، فإنهنَّ والله يجتمعنَ على الرجل حتى يُهلكنه، فيكون من المفلسين؛ يقول عليه الصلاة والسلام: «ما تعدون المفلس منكم» ؟ قالوا: من لا دينار له ولا درهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال كالجبال من صلاة وصوم وصدقة، ويأتي وقد لطَم هذا، وشتم هذا، ونال من عِرض هذا، وأخذ من مال هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أُخذ من سيئاتهم، ثم طُرحت على سيئاته فطُرح في النار».
المؤمن يا عباد الله كما جاء في الحديث يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقُط عليه، وأما المنافق فيرى ذنوبه كأنها ذباب طار على أنفه، فقال به هكذا.
وأعظم آثار الذنوب وعواقبها ـ يا عباد الله ـ سوء الخاتمة التي طيَّشت قلوب المتقين وحيَّرت أفئدة العابدين، أسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة.
إذا عاش الإنسان على المعصية وداوَم عليها، وأصرَّ عليها، فإنه سوف يموت عليها ويبعث يوم القيامة عليها عياذًا بالله.
ذُكر أن رجلًا نظر إلى امرأة لا تحل له، فتولَّع قلبه بها حتى مرض بسببها، فجاء الناس يعودونه وهو في سكرات الموت، وقالوا له: قل: لا إله إلا الله، فقال لهم: أين الطريق إلى حمام منجاب، وهو طريق محبوبته ومعشوقته.
وهذا مجنون ليلى لَما انحرف عن منهج الله، ومرض بالعشق والغرام، مرِض حتى مزَّق ثيابه وبكى وبكى، حتى بكى له الناس، ثم مزَّق ثيابه وأكَل بعض جسمه، ومات على هذه الحالة السيئة.
وذكر أن الفضيل بن عياض عاد أحد تلامذته وهو في سكرات الموت، فقال له: قل: لا إله إلا الله، فقال التلميذ: أنا بريء منها ومات على ذلك، فرآه الفضيل بن عياض بعد أربعين يومًا وهو يسحب به في نار جهنم، فقال له: كيف ختمت لك هذه الخاتمة وقد كنت أعلم تلامذتي؟ قال: بثلاثة أشياء: أولها النميمة، وثانيها الحسد، وثالثها كان بي مرضٌ، فقال لي الطبيب: اشرَب الخمر فشرِبتُه.
وهذا شاب في عصرنا الحاضر كان معرضًا عن ذكر الله وعن منهج الله إلى أن جاءه هادم اللذات، أتتْه سكرات الموت وهو في سيارته في حادث انقلاب، فجاء الناس إليه ولقَّنوه الشهادة وقالوا له: قل: لا إله إلا الله، فقال لهم: هل رأى الحب سكارى مثلنا.
هكذا ـ يا عباد الله ـ عاش على هذه الأغنية الماجنة ومات عليها.
فنسأل الله لنا ولكم وللمسلمين الستر والسلامة والعافية.
______________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد بن حسن المعلِّم
- التصنيف: