"ولا يحقره"
محمد بن إبراهيم السبر
حقيقة الكرامة إنما هي بلزوم الاستقامة، والتمايُز بين الخَلْق إنما يكون بتحقيق التقوى {...إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
- التصنيفات: أخلاق إسلامية - - آفاق الشريعة -
حقيقة الكرامة إنما هي بلزوم الاستقامة، والتمايُز بين الخَلْق إنما يكون بتحقيق التقوى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، والتباهي بالملبس والصورة، والتفاخر بالجاه والمال لا يُغني عند الله شيئًا، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ لا ينظُرُ إلى صُورِكم وأموالِكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالِكم»؛ (رواه مسلم).
كل هذا ليس بشيء عند الله، فليس بين الله وبين خلقه صلة إلا بالتقوى، فمن كان لله أتقى كان من الله أقرب، وكان عند الله أكرم.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أخلاق المسلمين بعضهم مع بعض، فقال: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ»؛ (رواه مسلم)، فالمسلم لا يحتقر أخاه المسلم، فلا يستصغر شأنه، ولا يضع من قدره، ويراه بعين النقص والازدراء.
احتقار الآخرين صفة لا تنبعث إلا من نفس ملوَّثة بجراثيم العُجْبِ والكِبْر، مدفوعة بشعور الفوقيَّة والاستعلاء، كما استهان إبليس الرجيم بآدم عليه السلام وسخر منه قائلًا: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]، وهكذا ينظر المُتكبِّر الذي خصَّه الله بنِعَمِه، فظَنَّ نفسَه أفضلَ من غيره، وأنه استحقَّ ذلك لأجل ذاته، فاحتقر غيره كِبرًا وعُلُوًّا.
والكِبْر من أعظم خِصال الشرِّ، ففي الحديث: «الكِبْر بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ الناس»، «لا يدخل الجنة مَن في قلبه مِثْقالُ ذرَّةٍ من كِبْرٍ»؛ (رواهما مسلم).
إن صفة الكِبْر تجرُّ إلى سلوك السخرية واحتقار الآخرين، وهو خُلُقٌ ذميم، والساخر المُعيِّر لمن حوله قد يُصيبه ذلك العيب، فقد قال الله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 10].
واحتقار الآخرين لقِلَّة ذات يدهم أو جاههم أو صورتهم ضعفٌ في العقل، وقِلَّةٌ في الإيمان، فالحياة وزينتها وزخرفها دول بين الخَلْق، فكم من فقيرٍ اغتنى، وكم من وضيعٍ شرف.
والذين يغترُّون بأنفسهم ويحتقرون الآخرين هم في الحقيقة لا يعودون بالاحتقار إلَّا على أنفسهم وما يشعرون، وكم من إنسانٍ نالَ بهذا الاحتقار مدحًا ومكانةً، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبِرُكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف مُتضعِّف لو أقسم على الله لأبرَّه، ألا أخبرُكم بأهل النار؟ كُلُّ عُتُلٍ جَوَّاظٍ مُسْتكبِر»؛ (متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»؛ (رواه مسلم).
والتواضُع للخَلْق آية على صحة الإيمان، وكمال في العقل، ورأفة في القلب، وفي التواضُع رفعة الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: «ما تواضَعَ أحَدٌ للهِ إلَّا رَفَعَه»؛ (رواه مسلم)، والمتواضِع مَن إذا رأى أحدًا قال: هذا أفضلُ مني، يقول الشافعي: أرفع الناس قدرًا مَنْ لا يرى قدره، وأكبر الناس فضلًا من لا يرى فضله.
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وتواضَعُوا لإخوانكم المؤمنين، وخذوا بوصية ربِّ العالمين في كتابه المبين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، واعلموا أن الله أمَرَكم بالصلاة والسلام على نبيِّه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهم صَلِّ وسَلِّم على النبي المصطفى المختار، وصَلِّ على الآل الأطهار، والمهاجرين والأنصار وجميع الصَّحْب الأخيار.