بناء ثقافتنا والحفاظ عليها
إن المتابع لحياة العرب قديماً يجد أنهم أهل ثقافة واضحة المعالم، بارزة السمات، ولن تكون الأخلاق إلا في قوم عرفوا بالفهم، والذوق، والحضارة التي أهّلتهم قبل غيرهم أن يكونوا حضَنَة الإسلام وناشريه.
الثـقافة: - لغة: من ثقف: بكسر العين وضمها- صار فطناً حاذقاً. وثقـّف الشيء: أقام المعوجّ منه وسوّاه.
- واصطلاحاً: العلوم والمعارف والفنون التي يُطلب الحذق فيها.( المعجم الوسيط )
- وقال أهل الخبرة: الأخذ من كل فن بطرف، ومن فنٍّ بكل أطرافه.
- وهي الحضارة المبنية على الفهم والعمل، فلا بد منهما مجتمعَين.
- وهي المكوّنات الرئيسة لحياتنا في مجتمعنا العربي والإسلامي من دين وعادات أصيلة، وشمائل.. وما شابه ذلك.
هل كان للعرب ثقافة: إن المتابع لحياة العرب قديماً يجد أنهم أهل ثقافة واضحة المعالم، بارزة السمات. ومن الأدلة على ذلك:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ولن تكون الأخلاق إلا في قوم عرفوا بالفهم، والذوق، والحضارة التي أهّلتهم قبل غيرهم أن يكونوا حضَنَة الإسلام وناشريه. ومن البدهي أنه حين تُكلف أمة من الأمم بحمل أعظم دين إلى البشرية جمعاء أن يكونوا خير من يؤدي الأمانة، وأقدر على ذلك بما يتسمون به من سمات تؤهلهم لذلك الشرف العظيم.
- التقسيمات الحيوية التي كانوا يعيشونها، فهم قبائل ذات أصول تتفرع إلى عشائر وأفخاذ ثم إلى أسر مترابطة يجمعها الولاء إلى مفاهيم - كالشهامة والمروءة ونصرة الضعيف والشرف والصدق و.. و...- تُحكم هذا الرباط وتقوّيه، وهذه الصفات أقرها الإسلام وعمل على ترسيخها وتمين عراها.
- أسواق العرب الدورية التي كانوا يَؤُمّونها، ويتبايعون فيها وينشرون قصائدهم فيها، ويتبارى فيها خطباؤهم وشعراؤهم ورجالاتهم على تأصيل الحكمة والتفاخر بشمائلهم. من هذه الأسواق سوق عكاظ شرقيّ مكة، و سوق ذي المِجَنّة قرب مكة كذلك، و سوق ذي المجاز قرب ينبع..
- الإعلام القوي الذي ملأ الآفاق – وأقصد الشعر – فهو كما قال الفاروق رضي الله عنه: الشعر ديوان العرب حفِظ الأنسابَ وأصّلَ الشمائل، ودعا إلى المكارم ودوّنَ أيام العرب وحياتها الاجتماعية والسياسية والعسكرية والفكريّة.
- وفخرت القبائل بشعرائها وخطبائها، وعلّقت النفيس من شعرهم على باب الكعبة لنفاستها، والمعلوم أنّ العِلق: النفيسُ. فالمعلّقات: النفيس من الشعر.
الدين يحفظ ثقافتنا: قال الفاروق عمر رضي الله عنه: نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلّنا الله
- فالقرآن كان سبب اهتمام المسلمين بالعلوم التي تخدمه كالنحو، وفقه اللغة، والفلك، والجغرافيا، والتاريخ، والتفسير، والفقه و.. و.. و.. له الفضل في انتشار اللغة العربية ورسوخها في عالم الحضارة والثقافة.
- ولولا القرآن الذي حفظ اللغة العربية لاندثرت كما اندثرت كثير من اللغات، أو تغيرت كما تغيرت أمهات اللغات، فاللغة الإنجليزية مثلاُ يتغير معظم مفرداتها وكثير من تراكيبها النحوية كل مئتي سنة – كما يؤكد دارسوها -. أو صارت لهجاتها لغات أصيلة كما حصل للغة اللاتينية حيث ظهرت الفرنسية والإيطالية والإسبانية و..
- وقد حاول المستشرقون أن يكتب كل قطر عربي ثقافته بلهجته فظهر أول كتاب باللهجة المصرية القاهرية عام ألف وتسع مئة، وحاول بعض نصارى لبنان أن يقلدوا أتاتورك في كتابة شعرهم اللبناني باللهجة اللبنانية والحروف اللاتينية، مثالهم الشاعر اللبناني سعيد عقل، فماتت المحاولات في مهدها..
- ولم يفلح – ولن يفلح هؤلاء- ما دام القرآن يُتلى آناء الليل وأطراف النهار، ويقرؤه الكبير والصغير، ويفهم معانيه العربي والمسلم غير العربي. وترى المسلم غير العربي يتلهف لقراءة القرآن والتنغم به، وقد لمست هذا باطّراد حين زرت الباكستان وتركيا وأمريكا..
- وقد تنبّه العرب والمسلمون إلى أن من لا ماضي له لا حاضر له فتمسّكوا بأساس ذاك الماضي ومحرّك هذا الحاضر.
كيف نحافظ على ثقافتنا: لا شك أنه من البدهي أن يحافظ المسلم ابتداء على لغة القرآن وثقافة الأمة الخالدة بالحفاظ على مكوّناتها الفطرية ودوافعها الحيوية، وأن يحافظ العربي بأطيافه كلها على لغته لأنها حضارته ومنبع ثقافته ومرتكز وجوده. وذلك بالتزامه بأمور عدة أذكر منها:
- الحديث بالعربية المبسطة ما أمكن في الأسرة ومع الأصدقاء والمجتمع، فالأمة الحية الناهضة تهتم بباعث نهضتها وباني ثقافتها
- القراءة المستمرة للكتب التي يهتم مؤلفوها باللغة الفصيحة والتعبيرات السليمة كالمسرحيات الهادفة والقصص المفيدة، وكتب التفسير المناسبة للمستوى والأحاديث الشريفة....
- الالتزام الديني الواعي، وهذا بدوره يدفع إلى الاهتمام بالثقافة العربية، فنحن نجد الملتزمين بالإسلام من غير العرب حريصين على اللغة العربية لأنها اللغة المقدسة، لغة القرآن الكريم والحديث الشريف، ونحن أصحاب اللغة وناشرو الدين أولى من غيرنا بهذا الاهتمام والعناية.
- الاعتزاز بالماضي ، فهو ركيزة الحاضر والمستقبل. ويتجلى الاعتزاز بالماضي بمايلي:
1- بدراسته بتفهم وإمعان، واستنباط العظة والعبرة ومكامن القوة فيه لتوظيفها في بناء الحياة الصحيحة،ومعرفة أسباب الضعف ودواعيه لتلافيها
2- الانتماء للماضي والانتساب إليه، فمن سار على خطا أجداده وتأسى بهم ملك الدنيا ودانت له.
3- تعريف الأمة به، وتقريبه إليهم ليستلهموه في بناء ثقافتهم وحضارتهم.
- استشعار روح العزة وقوة الذات أمام الهجوم الثقافي الغربي.. وهذا يكون ببناء الشباب على أنهم بناة المستقبل وأبناء السلف الصالح الذين سادوا العالم، فمن أراد أن يكون مثلهم سار على طريقتهم.
والأمر يسير جداً حين نجتهد في بناء نهضتنا، والحفاظ على حضارتنا وثقافتنا.
والأمل كبير في شباب الأمة وبناة المستقبل أن يكونوا على قدر المسؤولية في بناء الثقافة الإسلامية وإيصال ثقافتنا إلى الآخرين.
_______________________________________________
الكاتب: دكتور عثمان قدري مكانسي
- التصنيف: