مناقشة دعوى النسخ في آيات الأحكام
فيما يلي عرض لأشهر آيات الأحكام التي قيل إنها منسوخة، وذكر أقوال بعض المفسرين الذين يرون أن هذه الآيات محكمة.
فيما يلي عرض لأشهر آيات الأحكام التي قيل إنها منسوخة، وذكر أقوال بعض المفسرين الذين يرون أن هذه الآيات محكمة. وأبدأ أولا بتعريف النسخ والإشارة لبعض شروطه فيما يخدم موضوعنا.
النسخ في اللغة: الازالة والنقل. وفي الفقه: إزالة ما كان ثابتًا بنصٍّ شرعيّ، ويُعَرّف أيضا بأنه : رفع الحكم الاول بنص شرعي متأخر.
ويشترط في صحته شروط، منها:
- أن يكون الناسخ وحيًا، من كتاب أو سنة ، فالنسخ بمجرد الإجماع لا يجوز.
- أن يتأخر الناسخ عن المنسوخ.
- أن يمتنع اجتماع الناسخ والمنسوخ؛ بأن يكونا متنافيين قد تواردا على محل واحد ، يقتضي المنسوخ ثبوته والناسخ رفعه أو بالعكس.
الاية الاولى : قوله تعالى : {{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } } [البقرة:180]
أكثر العلماء يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وقد خالفهم في ذلك بعض العلماء ، قال ابن عثيمين : ... ولكن أبى ذلك عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال: إن الآية محكمة، وأن الوصية واجبة للأقارب غير الوارثين، وما ذهب إليه أقرب إلى الصواب([1]).
وقال السعدي : .... فبهذا الجمع، يحصل الاتفاق، والجمع بين الآيات، لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ، الذي لم يدل عليه دليل صحيح([2]).
وبعد أن ذهب الإمام الطبري إلى القول بأن الآية محكمة، يقرر قاعدة مهمة في هذا الصدد، فيقول ما ملخصه: إذا كان في النسخ تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا الحكم بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها، إذ من الممكن الجمع بين هذه الآية وبين آية المواريث ، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى، .... وبه قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين([3]).
الاية الثانية : قوله تعالى: {(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ)} (التوبة: 36).
والأشهر الحرم هي : رجب الفرد، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وسميت حرما لزيادة حرمتها، وتحريم القتال فيها.
الجمهور من العلماء على أن القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى: {{فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}} (التوبة: 5) وغير ذلك من العمومات التي فيها الأمر بقتال الكفار مطلقا، والوعيد في التخلف عن قتالهم مطلقا.
ويذهب العلامة السعدي : إلى أن القتال في الأشهر الحرم لم ينسخ، لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم، بل أكبر مزاياها، تحريم القتال فيها، وهذا إنما هو في قتال الابتداء(أي :الهجوم)، وأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال، فإنه يجوز للمسلمين القتال، دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء([4]).
وقد ذهب عطاء إلى أن تحريم القتال في الشهر الحرام لم ينسخ، فقد ذكر غير واحد من المفسرين أن عطاء بن أبي رباح حَلَفَ بالله أنه ما يحل للناس أن يغزوا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتَلوا فيها، وما نُسِخَتْ.
الاية الثالثة : قوله تعالى: {{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}} الاية (البقرة: 234).
قال السعدي : ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها، وهي قوله: {{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج}} [البقرة: 240] ، وأن الأمر كان على الزوجة أن تتربص حولا كاملا، ثم نسخ بأربعة أشهر وعشر.
ويجيبون عن تقدم الآية الناسخة، أن ذلك تقدم في الوضع، لا في النزول، لأن شرط الناسخ أن يتأخر عن المنسوخ، وهذا القول لا دليل عليه.
ومن تأمل الآيتين، اتضح له أن القول الآخر في الآية هو الصواب (أي أنها محكمة)، وأن الآية الأولى في وجوب التربص أربعة أشهر وعشرا على وجه التحتيم على المرأة، وأما في هذه الآية فإنها وصية لأهل الميت أن يبقوا زوجة ميتهم عندهم حولا كاملا، جبرا لخاطرها، وبرا بميتهم، ولهذا قال: {{وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ}} أي: وصية من الله لأهل الميت، أن يستوصوا بزوجته، ويمتعوها ولا يخرجوها([5]).
وقال في موضع آخر : قيل لم تنسخها، بل الآية الأولى دلت على أن أربعة أشهر وعشر واجبة، وما زاد على ذلك فهي مستحبة ينبغي فعلها تكميلا لحق الزوج، ومراعاة للزوجة، والدليل على أن ذلك مستحب أنه نفى الجناح عن الأولياء إن خرجن قبل تكميل الحول، فلو كان لزوم المسكن واجبا لم ينف الحرج عنهم([6]).
الاية الرابعة : قوله تعالى : {( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا)} (النساء : 8)
قيل : نسختها الآية التي بعدها: {{يوصيكم الله في أولادكم}} (النساء : 11).
قال أبو جعفر الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال،"هذه الآية محكمة غير منسوخة، ....
وإنما قلنا ذلك ، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره، أن شيئا من أحكام الله تبارك وتعالى- التي أثبتها في كتابه أو بيَّنها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم- لا يدعى فيه النسخ، إلا والحكمان ناف كل واحد منهما صاحبه، غيرُ جائز اجتماع الحكم بهما في وقت واحد بوجه من الوجوه، ....([7]).
وفي البخاري عن ابن عباس : قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. وفي رواية أخرى قال: إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت ولكنها مما تهاون الناس بها ([8]).
ومعنى الآية: وإذا حضر قَسْمَ التركة من لا يرث من الأقارب واليتامى والفقراء؛ فأعطوهم -على سبيل الاستحباب- من هذا المال قبل قسمته ما تطيب به نفوسكم، فهم مُتشوِّفون إليه، وقد جاءكم بلا عناء، وقولوا لهم قولًا حسنًا لا قبح فيه([9]).
وروي أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن في حياة عائشة، فلم يدع في الدار ذا قرابة ولا مسكينا إلا أعطاه من ميراث أبيه، وتلا الآية ([10]).
نسأل الله التوفيق والتيسير والفقه في الدين ، اللهم آمين
([1]) الشرح الممتع على زاد المستقنع (11/ 135).
([2]) تفسير السعدي (ص: 85).
([3]) تفسير الطبري (3/ 384).
([4]) تفسير السعدي (ص: 97) (ص: 218).
([5]) تفسير السعدي (ص: 106) (ص: 951).
([6]) تفسير السعدي (ص: 106).
([7]) تفسير الطبري (7/ 12).
([8]) تفسير القرطبي (5/ 49).
([9]) المختصر في تفسير القرآن الكريم (1/ 78).
([10]) فتح الباري لابن حجر (8/ 242).
- التصنيف: