رسالة اعتذار من ترك العشاء خارج الدار
ولئن كانت لطَرَفَة طريقتُه في تخطي الهم على حدِّ قوله:
وَإِنّي لأمضي الهَمَّ عِندَ احتِضارِهِ ** بِعَوجاءَ مِرقالٍ تَروحُ وَتَغتَدي
فقد أَتَخَطَّى الهَمَّ حين يحلّ بي ** وأُغفله شُغلاً بإقبال أُسْرَتــي
فيُغْضِبُه الإغفالُ منيِّ ومــا دَرى ** على جِلِّه أنَّ الأجلَّ أحِبَّتِــــي
يُغادر غضباناً ولستُ بِعابـــــئٍ ** وإنْ رَصَدَ الأعباءَ يَرْقُبُ طَلْعَتِـي
يُهدِّدني هَمِّي بقتلِ عَزِيمَتــي ** فتَصْقُلها البسْمَاتُ مِن ثَغْرِ طفلتي
ويجهرُ ضوءُ الثَّغْرِ إنْ هي أشرقت ** جيوشَ هُمومٍ تُثْخَنَنَّ بهمَّـتي
ولو لم يكن له همٌّ، فعمرك الله! أي أب هذا الذي يرى مغنماً وإن عَظُم، أو شيئاً من متاع الدنيا وإن جل أكبر من صغاره! ولعل هذا الضرب -من إكبارنا لصغارنا- غريزة جبل الناس عليها، وقد قال الحق سبحانه وتعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ...} [آل عمران: 14] الآية.
ومع هاتيك المشاعر فإن حال العمل الوظيفي بالإضافة إلى ارتباطات أخرى لازمة لا تهيئ له الجلوس مع أهله وصغاره كثيراً، فهو يأوي إلى البيت مجهداً، فلا يلبث قليلاً حتى يدلف إلى مهجعه، أو محل قيلولته، وربما راجع قليلاً ثم قال، أو قرأ شيئاً ثم هجع.
ولهذه كانت وجبتا الغداء والعشاء داخل داره الصغيرة لهما منزلة كبيرة عنده.
يحرص عليهما.. يبادر إليهما.. لا يجيب عن مكالمة خلالهما إلاّ ما لا يسعه رده.. لا تروقه كثيرٌ من الولائم التي تحرمه منهما وإن كان فيها ما لذ وطاب من أنواع الطعام.. لا يُقَدِّم على غداء البيت غداءً، ولا على عشائه عشاءً.
بل إن عدداً من دعوات العشاء خارج الدار تعد عنده عبئاً ثقيلاً.. تكليفاً وليست تشريفاً.
كان في ريعان الشباب ربما استوقفه قولُ ميسون بنتِ بحدل:
وشُرْبُ لُبَيْنَةٍ وتطيبُ نفسي ** أحبُّ إليَّ من أكلِ الرغيفِ
وأكل كُسيرة في كِسْرِ بيتي ** أحب إليّ من أكل الرغيف
لا.. فليست القضية مفاضلة بين كسيرة ورغيف، أو مذقة لبن وأكلٍ دسم.
ثم جاءه الجواب وزال العجب لَمّا ركب خطة مقاربة، وشغلته الدنيا شيئاً ما.
بل عَلم بعْدُ أن ما يعتمل في نفسه لم يكن محض مشاعر لا حرج عليه فيها، وبدا له أن الله قد حبب إليه هديًا نبويًّا يقتضيه حسنُ العشرة وأدب الصحبة.
فقد ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه: أن جاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارسياً كان طيب المرق، فصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء يدعوه.
فقال: «وهذه» ؟ (لعائشة).
فقال: لا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا» .
فعاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهذه» ؟
قال: لا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا» .
ثم عاد يدعوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهذه» ؟
قال: نعم، في الثالثة.
فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله[1].
لسان حاله: غدائي غداؤكم ولا طعام لي بدونكم.
أما اليوم فقد يعجب كثير من الفضلاء إن اعتذر له معتذر عن إجابة الدعوة بإيثاره أن يطعم مع الأهل! أما المصطفى فلا، فلله ما أحسنَ عشرتَه صلى الله عليه وسلم، وأكرم بمقام الأهل عنده، وخيركم خيركم لأهله.
ولك أن توازن بين موقفه صلى الله عليه وسلم هذا، وموقفٍ مع صاحب له آخر، مخرج في الصحيحين من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب، وكان له غلام لحّام، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه، فعرف الجوع في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى غلامه اللحام فقال: اصنع لي طعاماً يكفي خمسة، لعلي أدعو النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، فصنع له طعاماً ثم أتاه فدعاه فتبعهم رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا شعيب إن رجلاً تبعنا فإن شئت أذنت له وإن شئت تركته». قال: لا بل أذنت له[2]. والشاهد قوله: إن شئت أذنت له وإن شئت تركته.
أخـيراً.. إذا علمتم يا كرام أن صاحبكم يعي هذه المعاني فسامحوه إن تأخر أو غاب، فقد تأخر لا عن زهد فيكم، وقد غاب لكن لا عن قلى.
واعذروه يا صغار إن لم يعذره الكبار وقالوا: لا مناص الليلة من العشاء!
- التصنيف: