{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم }
أيها المسلم الحق، هل تحقق لديك هذا الشعور والإحاس بهذا التعبير القرآني الجليل.
أيها المسلم الحق، هل تحقق لديك هذا الشعور والإحاس بهذا التعبير القرآني الجليل. هل شعرت به في يوم من الأيام، أو في لحظة من اللحظات، إنها الحال التي يجدها قلب المؤمن حين يذكر بالله في صدد أمر أو نهي؛ فيأتمر معها وينتهي كما يريد الله، وجلا وتقوى لله.
إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن فيغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته؛ ويتمثل عظمة اللّه ومهابته، إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة...
هنا تفيض العين بالدموع إما شوقا وحبا للقاء الله، أو خوفا وخشية من جلال الله، فالعين لا تدمع إلا إذا طهرت النفس، وزكت الروح، وصفى القلب.
فإذا امتلأ القلب إيمانا ونورا وعلما ويقينا فاضت العين بالبكاء، وهذا دليل علي رقة القلب وطهارته، فالقلوب القاسية أو المحجوبة بشهواتها عليها ران وحجاب يحول بينها وبين هذه العبادة الراقية وهي أن تدمع العين...
وحسبنا هذا التَّهديد الإلهي المخيف: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].
إنَّ البكاءَ مِن خشية الله - تعالى - مقامٌ عظيم، وهو مقامُ الأنبياء والصالحين، وهنا نتذكر مثل هذه المشاعر الراقية في قول الله:
{وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [التوبة - 92].
إنها لصورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد، والألم الصادق للحرمان من نعمة أدائه.
بمثل هذه الروح انتصر الإسلام، وبمثل هذه الروح عزت كلمته. فلننظر أين نحن من هؤلاء. ولننظر أين روحنا من تلك الفئة المؤمنة. ثم لنطلب النصر والعزة إن استشعرنا من أنفسنا بعض هذه المشاعر..
ولننظر وصف الله لهذه الحالة الإيمانية: {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَٰبًا مُّتَشَٰبِهًا مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِى بِهِۦ مَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنْ هَادٍ} [الزمر - 23].
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الحج: 35].
{وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60].
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58]
إنَّ البكاءَ مِن خشية الله - تعالى - مقامٌ عظيم، وهو مقامُ الأنبياء والصالحين.
إن من طبيعة هذه الحالة في قلب المؤمن أنه لا يمكن أن يقوم بدونها الإيمان أصلًا.
وبهذه الحالة يجد المؤمن في القرآن ذلك المذاق الخاص، يساعده عليه ذلك الجو الذي يتنسمه؛ وهو يعيش القرآن فعلًا وواقعًا؛ ولا يزاوله مجرد تذوق وإدراك!
وهنا يحضرني موقف الأعرابي الذي انتابته هذه الحالة الإيمانية. فلنستمع لقول الأصمعي عن ذلك.
قال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له، متقلدًا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني الأصمعي، قال: ومن أين أقبلت؟ من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: أو للرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتلُ عليّ منه شيئًا.
فقرأت: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات: 1] إلى قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22].
فقال: يا أصمعي حسبك، ثم قام إلى ناقته فنحرها، وقطعها بجلدها، وقال: أعنّي على توزيعها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما، ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] فمقت نفسي ولمتها، ثم حججتُ بعد مدة مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفتُ فإذا بالأعرابي وهو ناحل مصفر مسلّم عليّ، وأخذ بيدي، وقال: اتلُ عليّ كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت: {وَالذَّارِيَاتِ} حتى وصلت إلى قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، فقال: الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقًا، هل غير ذلك؟
قلت: نعم يقول الله – تبارك وتعالى -: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ قال ذلك ثلاثًا، ثم خرجت بعدها روحه ومات.
أيها المسلم لا أطيل عليك.
فهذه الحالة أمامك، فانظر أين أنت.
جاهد نفسك لعلك تعيشها وتستمتع بها قبل لقاء ربك.
____________________________________________________________
الكاتب: أ. د. فؤاد محمد موسى
- التصنيف: