الميزان هو التقوى
كم من إنسان غير معروف، ولا يؤبه له، وليس من أشراف الناس ولا من ساداتهم أو كبرائهم، رفع الله منزلته، وأعلى مكانته، وأصبح له تأثيره ووزنه في أمته.
وقف بلال وصهيب وعمار وأبو سفيان والحارث بن هشام رضي الله عنه عند باب عمر ليؤذن لهم، وكان أبو سفيان يتوقع أن يدخل الأول لأنه سيد قريش، فأمر عمر رضي الله عنه بأن يدخل أولاً بلالاً ثم عمار وصهيب وبقي كبار قريش عند باب عمر، فغضب أبو سفيان وكأنه قال: ما رأيت أن يدخل قبلي هؤلاء الأعبد، فعاتبه الحارث بن هشام، وقال كلامًا ما معناه، إن القوم دُعُوا فأجابوا فسبقوا للإسلام ودعينا فتأخرنا، ولا أبالي أن أقف عند باب عمر فلا أدخل ولكن أخشى أن أتأخر في الآخرة.
ودخل خباب بن الأرت يومًا على عمر فأكرم مجلسه وقال: ما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا بلال.
إذاً ما الذي رفع بلالاً، وأوصله إلى هذه المنزلة: إنه التقوى: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
لذا سمع النبي صلى الله عليه وسلم خشفة (أي صوت) نعليه في الجنة وسأله عن ذلك، فقال: إنه ما أذن قط إلى وصلى بعده ركعتين، وما أحدث إلا وتوضأ ثم صلى ركعتين[1].
فكم من إنسان غير معروف، ولا يؤبه له، وليس من أشراف الناس ولا من ساداتهم أو كبرائهم، رفع الله منزلته، وأعلى مكانته، وأصبح له تأثيره ووزنه في أمته.
فهذا عبدالرحمن بن أبزى الخزاعي له صحبة ورواية، وفقه وعلم وهو مولى من الموالي ففي صحيح مسلم[2] نافع بن عبدالحارث الخزاعي، وكان عامل عمر على مكة، أنه لقيه بعسفان[3]، فقال له: من استخلفت؟ فقال: ابن أبزى مولى لنا، فقال عمر: (مستنكرًا عليه) استخلفت مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: " «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين» ".
ويروى عن عمر رضي الله عنه أن قال: ابن أبزى ممن رفعه الله بالقرآن[4].
وهذا مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي عبد أسود مولى من الموالي رفعه الله بالتقوى وفعل الطاعة وطلب العلم، لم يمنعه ضعفه ولا فقره من أن يقدم شيئًا للأمة، وأن يؤثر فيها وأن يصنع مجدًا يخلده التاريخ فكان شيخ المفسرين والقراء وإمامهم والمقدم على كثير منهم في زمانه، يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة. ويقول: عرضت القرآن ثلاث عرضات أوقفه عند كل آية أسأله فيم نزلت، وكيف كانت؟
ويقول عنه الأعمش: ترى مجاهد كأنه حمال.
فإذا نطق خرج من فيه اللؤلؤ، مات رحمه الله وهو يصلي ساجدًا لله سنة 102هـ[5].
يقول مجاهد: صحبت ابن عمر رضي الله عنهما، وأنا أريد أن أخدُمَه، فكان يخدمُني. ويقول: ربما أخذ ابن عمر لي بالرّكاب. فهذا تابعي وابن عمر صحابي ولكن رفعه الله بالتقوى والعلم.
[1] رواه الإمام أحمد 5 /354، وأصله في البخاري 1149، ومسلم 2428 .
[2] رقم 817 .
[3] منطقة قريبة من مكة.
[4] انظر: سير أعلام النبلاء 3 /202 .
[5] انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 4 /449 .
________________________________________________________
الكاتب: د. إبراهيم بن فهد بن إبراهيم الودعان
- التصنيف: