موادعة اليهود
اليهود في الجزيرة العربية قوم وافدون، ليسوا من أهلها الأصليين، إنما كان مجيئهم من جراء اضطهاد الرومان لهم بعد العدوانية التي أظهروها ضد النصارى
اليهود في الجزيرة العربية قوم وافدون، ليسوا من أهلها الأصليين، إنما كان مجيئهم من جراء اضطهاد الرومان لهم بعد العدوانية التي أظهروها ضد النصارى؛ الدِّين الجديد الذي أتى به عيسى عليه السلام، وأورد بعضهم أن لجوءهم إلى الجزيرة العربية كان من جراء عدوان بختنصر عليهم وتهجيرهم من فلسطين، فانحاز جزء منهم إلى أرض العرب، بينما خرج الأكثرية في هجرة قسرية إلى بابل، وزعم أنهم نزلوا المدينة قبل مجيء الأوس والخزرج الذين نزحوا بعد خراب سد مأرب من اليمن، لكن واقع الحال على أرض المدينة على غير هذا الزعم؛ لأن الأرض الخصبة والزراعية كانت بأيدي الأوس والخزرج، وأن اليهود كانوا يعيشون في حصون تحميهم؛ لإحساسهم بأنهم غرباء دخلاء على المنطقة، فبنوا الحصون؛ لحماية أنفسهم
ثم تسللوا إلى المجتمع وهم يحملون سياسة فرِّقْ تسُد، والمال للسيطرة عن طريق الإقراض والربا، ثم انتقوا أماكن سكناهم بعناية في المدينة وخيبر ووادي القرى، وأمام وجودهم في المجتمع المدني وتداخلهم مع قبائله بأحلاف واتفاقات، وهم فوق كل هذا أصحاب ديانة سماوية، فكان لا بد من الاعتراف بهم كطيف مؤثر من أطياف المجتمع المدني، فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم زعماءهم وكلمهم في كتابة عهد بينه وبينهم على العيش المشترك، والعمل معًا لبناء المجتمع المدني على أساس من التعاون والحفاظ على المدينة والدفاع عنها ضد الأعداء، ونبذ الخلاف، مع تمتعهم بحرية العبادة،\
وقد ذكر أصحاب السير نص العهد الذي ينظم هذه العلاقة، قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادَع فيه يهودَ، وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين..
ولا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا
وإن المؤمنين يُبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وإنه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا ولا تحول دونه على مؤمن، وإنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه، وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يؤويه، وإنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وآل بيته..
وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها، وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (ربعتهم: حالهم وشأنهم وعادتهم - يتعاقلون: يتعاونون في دفع الدية - عانيهم: أسيرهم - دسيعة: عطية - يبيء: يمنع ويكف - اعتبط: القتل في غير ما هو حق - القود: القصاص من القاتل - لا يوتغ: لا يهلك إلا نفسه - محدثًا: مرتكبًا جناية القتل).
وهكذا كانت هذه الموادعة مع اليهود قانونًا ملزمًا، فصل ما لهم وما عليهم، وقد التزم بها المسلمون، وعمل اليهود - كعادتهم - على الالتفاف عليها، كما سنرى في سبب قتال بني قينقاع، ثم بني النضير، ثم بني قريظة.
________________________________________________
الكاتب: د. محمد منير الجنباز
- التصنيف: