سورة الشمس وأهمية تزكية النفس
السورة تضمنت أحد عشر قسماً وهو أطول قسم فى القرآن وكأن الآيات تلفت الأنظار لأمر مهم يحتاج أن نعيره الانتباه ألا وهو أهمية أن يزكى الانسان نفسه
مناسبة السورة لما قبلها
فى سورة البلد ذكر " {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ10} " أى بين له طريق الخير وطريق الشر وهى متناسبة مع ما جاء فى سورة الشمس فى قوله " {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 8 " وفى سورة البلد نجد قوله تعالى " {أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } " و ما فيها من طغيان للنفس فتأتى سورة الشمس تبين أهمية تزكية النفس وترويضها حتى لاتطغى إذ يقول تعالى :" {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } " كما أنها متناسبة مع مثال الطغيان فى سورة الشمس وهم قوم ثمود " {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها } "
السورة تضمنت أحد عشر قسماً وهو أطول قسم فى القرآن وكأن الآيات تلفت الأنظار لأمر مهم يحتاج أن نعيره الانتباه ألا وهو أهمية أن يزكى الانسان نفسه
" {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)} " أى: و ضوئها . ( وضحاها ) النهار كله
أقسم الله عزوجل بمخلوق وهو الشمس التى تحمل معنى الدفء والإشراق فعندما تشرق يعم نورها الكون وبالأخص أفضل وقت لتجلي الشمس هو وقت الضحى وقت تكون الشمس فى أروق أوقاتها وهو إيحاء بالحركة والنشاط والشمس تسبح فى فلكها بتقدير دقيق لا تخرج عنه يقول الشيخ محمد الغزالى فى تفسيره الموضوعى للقرآن
"عندما أنظر إلى الشمس في كبد السماء أحسبها تزيد قليلا عن شبر في شبر! ثم أذكر أقوال العلماء أنها تكبر أرضنا (مليونا ونصف مليون مرة)، وأن المسافة التي تباعدنا عنها (150 مليون كيلومتر)، وأن الكواكب التي تتبعها تسعة كواكب من بينها أرضنا التي تحمل ستة مليارات من البشر وحدهم! وأن هذه الشمس وتوابعها تجرى بين شموس أخرى لا تحصى في مجرة مديدة الآفاق، وأن هذه المجرات على كثرتها المذهلة تدور في زاوية محدودة من الكون الفسيح الذي لا تعرف آماده ولا تدرك أبعاده! قلت وأنا مبهور ما أوسع الكون! واستتليت وأنا حائر: وما أوسع خالقه!"
وفى قوله " {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} (2) " أى إذا تبعها و حركة تعاقب الشمس والقمر والتى منها تعاقب الليل والنهار "كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ " [ الأنبياء : ٣٣ ]، فإنه بهذا التعاقب تقوم مصالح بنى آدم وسائر الكائنات فالنهار للحركة والعمل الدئوب والليل للسكون والراحة
وفى قوله تعالى :" {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} جلاها تعنى الكشف والإظهار فالنهار يجلى الشمس،
{"وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)} " أى يغشى الشمس حين تغيب فَتُظْلِمُ الآفَاقُ.
إن ظهور الشمس هو سبب النهار، ومغيبها سبب الليل. فالضمائر كلها فى الآيات السابقة مرتبطة بالشمس منذ البداية
( وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ) يقول الطبرى : ومَنْ خَلَقها، يقول فوضع " ما " موضع " مَنْ" كما قال وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ جائز توجيه ذلك إلى معنى المصدر، كأنه قال: والسماء وبنائها، ووالد وولادِته."
وعلاقة السماء بأول قسم وهو الشمس فهى مستقر الشمس والقمر
وقوله: {( وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا )} . . والطحو كالدحو : البسط والتمهيد للحياة . وجعلها مؤهلة للحركة والمشى عليها " وعلاقتها بالشمس هى المكان الذى تشرق عليه الشمس
وقوله {( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا )} ما تعود عليه جل فى علاه ؛ لأنه هو الذي سوّى النفس وخلقها، فعدّل خلقها، "
لقد خلق الله الإنسان مزودا باستعدادات متساوية للخير والشر والهدى والضلال، فهو قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر وتسوية النفس ليخلصها من أدرانها لكى تصلح أن تدور فى فلك العبودية لله كما تدور الشمس والقمر والكواكب فى أفلاكها فكلٍ خاضع لله.
وقد يكون تسوية النفس بالابتلاء حتى تتطهر النفس وينقيها من أمراض القلوب من كبر وعجب ورياء وغضب و...و... يداوى أسقامها والنفس الواحدة تكون متقلبة فأحيانا تكون مطمئنة وأحيانا تكون نفس لوامة وفى أوقات أخرى تكون أمارة بالسوء وكل ذلك فى ذات النفس الواحدة
ما علاقة ما سبق بالنفس وتزكيتها فتعاقب الليل والنهار له أثر فى النفس بتعاقب أوقات السراء والضراء وتعاقب فترات اجتهاد النفس وفترات الخمول والكسل لها
وما علاقة السماء والأرض بالنفس ؟ إن النفس عندما تتزكى تحلق فى السماء وتصبح كالملائكة وعنما تغفل وتنسى ربها تعود إلى مادة الطين التى خلقت منها تعود إلى الارض وتتعلق بزينة الحياة الدنيا
وقوله :" {فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا } " 8" أى بين لها وامتحنها بطريق الخير وطريق الشر وهداها إلى ما قدر لها بما أودعه الله فى الانسان من عقل وإرادة وحرية اختيار كل ذلك ليميز بين الحق والباطل فمن نماها ورفعها وأدبها بأدب القرآن واتباع الرسل فقد حقق التقوى وعلى الجانب الآخر من أذل نفسه وحقرها بارتكاب المعاصى واتباع الشهوات فقد حكم عليها بالشقاء
يقول ابن القيم َ فى معنى ألهمه أى مكنه وعرفه وأرشده وأرسل إليه رسله وأنزل إليه كتبه لاستخراج تلك القوة التى أهله بها.
وفى قوله ﴿ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} ﴾
زكى نفسه حينما عرفها بربها، وزكى نفسه حينما حملها على طاعته من صدقة وبر وقيام وصيام ، وزكى نفسه حينما قربها إلى الله بالأعمال الصالحة، وزكى نفسه حينما اتصل بالله عز وجل، المؤمن بين تخلية وتحلية يطهرها من أمراض القلوب والشبهات والشهوات ويزودها بالصفات التى يحبها الله ويرضاها وإنه لمداعة إلى العجب إذ كيف لأقوام لا يرضون لأبدانهم إلا أطيب العيش وأغلى الدواء بينما يغفلون عن مداواة قلوبهم التى فيها نجاتهم
يقول بن القيم :" النفوس الشَّرِيفَة لا ترْضى من الأشْياء إلّا بِأعْلاها وأفضلها وأحمدها عاقِبَة والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات وتَقَع عَلَيْها كَما يَقع الذُّباب على الأقذار فالنَّفْس الشَّرِيفَة العلية لا ترْضى بالظلم ولا بالفواحش ولا بِالسَّرقَةِ والخيانة لِأنَّها أكبر من ذَلِك وأجلّ والنَّفس المهينة الحقيرة والخسيسة بالضد من ذَلِك فَكل نفس تميل إلى ما يُناسِبها ويشاكلها وهَذا معنى قَوْله تَعالى ﴿ {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِه} ﴾
وفى قوله ﴿ {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } ﴾ :الفلاح عند الله والنجاح له مقاييس أخرى فالفلاح عند الإنسا ن هو الحصول على منصب أو ثروة أو زوجة أما الفلاح عند الله أن ينجح فى اختبار الحياة ويدخل الجنة وكل العبادت جاءت لتزكية النفس إذ يقول تعالى :" {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)} " وأن الغرض من إرسال الرسل هو تزكية النفس إذ يقول تعالى :" { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}
وفى قوله :" {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} "
وأصل التدسية: الإخفاء. ومنه قوله تعالى: ﴿أمْ يَدُسُّهُ في التُّرابِ﴾
والمقصود " دنسها بالمعاصي، والآثام، والانحرافات، دنسها بالبعد عن الله، دنسها بالتعاون مع الشيطان"
ما علاقة النفس وتزكيتها بالشمس فكلما تزكت النفس أشرقت كاشراق الشمس وغفلة النفس وطمسها كغياب الشمس يقول البقاعى فى هذا المعنى :
فالتزكية أن يحرص الإنسان على شمسه أن لا تكسف ، وقمره أن لا يخسف ، ونهاره أن لا يتكدر ، وليله ألا يطفى ، والتدسيس أقله إهمال الأمر حتى تكسف شمسه ، ويخسف قمره ، ويتكدر نهاره ، ويدوم ليله ،
ثم يضرب المثل للنفس حين تصل لأعلى درجات الطغيان تأتيها الآية تلو الآية ولا تخضع ولا تستسلم
قال تعالى ﴿ {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها} ﴾ أيْ: كذبت رسولها بطغيانها . أنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم لأن كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم وقبيح غايتهم ، الطغيان هو مجاوزة القدر والغلو فى الكفر والإسراف فى المعاصى والمَعْنى: أنَّ الطُّغْيانَ حَمَلَهم عَلى التَّكْذِيبِ
وفى قوله { {إِذِ ٱنۢبَعَثَ أَشۡقَىٰهَا} } (12) هو الأكثر شقاء وتعاسة لأنه هو الذى عقر الناقة أَى أشقى القبيلة ، وهوُ قُدَار بْنُ سَالِفٍ عاقرُ النَّاقَةِ، وَهُوَ أُحَيْمِرُ ثَمُودَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَعَلِيٍّ: "أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ؟ ". قَالَ: بَلَى: قَالَ: "رَجُلَانِ؛ أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَر النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذَا -يَعْنِي قَرنه-حَتَّى تَبْتَلَّ مِنْهُ هَذِهِ" يَعْنِي: لِحْيَتَهُ(٦) .
وفى قوله " {فَقَالَ لَهُمۡ رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقۡيَٰهَا" (13)} فقد حذرهم نبيهم أن لا يمسوا الناقة بسوء ولا يقربوا من الماء المخصص لها فإن لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم فلم يستجيبوا لتحذيراته
وفى قوله {﴿فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا﴾} أَيْ: كَذَّبُوهُ بما جاءهم به وعقروا الناقة التى كانت آية لهم وحجة عليهم والذى عقرها واحد لكن جاء الفعل بلفظ الجماعة وكأن المجتمع ارتضى هذه الفعلة ولم يضربوا على يد الظالم فعمهم العذاب
وفى قوله " {فَدَمۡدَمَ عَلَيۡهِمۡ رَبُّهُم بِذَنۢبِهِمۡ فَسَوَّىٰهَا} " مَعْنى دَمْدَمَ أطبق عليهم العذاب ، يقال : دَمْدَمْتُ على الشىء إذا أطبقت عليه والدمدمة ترسم مشهد حين غضب الله على هذه القرية فسواها بالأرض
وفى قوله ( {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} ) عن ابن عباس، قوله: قال: لا يخاف الله من أحد تبعة. يقول الفخر الرازى المراد منه التنبيه على أنه بالغ في التعذيب، فإن كل ملك يخشى عاقبة، فإنه يتقي بعض الاتقاء، والله تعالى لما لم يخف شيئاً من العواقب، لا جرم ما اتقى شيئاً ".
وحيث أن الهدف من السورة الوصول إلى معنى تزكية النفس فهناك وسائل وإضاءات بينتها السورة لتضىء أمام المؤمن الطريق لتزكية النفس والتى منها
التفكر فى خلق الله الشمس والقمر والسماء والأرض كلما تفكر الإنسان ازداد معرفة بالله ومعرفة بنفسه ومواطن ضعفها كما بينت السورة أنك كلما أعطيت شيئا فى الحياة أكبر من حجمه وأشرب حبه قلبك صغرت نفسك وذلت فالنفس كالدابة إن ركبتها حملتك وإن ركبتك قتلتك و من وسائل التزكية التى أرشدت لها الآيات أيضا أن الفلاح فى اتباع الرسل والاعتبار بالأمم السابقة وبما حل بها من العذاب حين كذبت الرسل على المسلم ان يتخذ من الدعاء وسيلة لتزكية النفس كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يدعو بهذا الدعاء
عن عائشة رضي الله عنها قالت:
«"أتيْتُ لَيْلَةً، فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يقُولُ: رَبِّ أعْطِ نَفْسِي تَقْواها، وزَكِّها، أنْتَ خَيْرُ مَن زَكّاها، أنْتَ ولِيُّها ومَوْلاها". »
- التصنيف: