سلوك المسلم عند الفتن والشدائد
الشدائد والابتلاءات سُنةٌ إلهية قدَّرها الله للأفراد والأُمم، فالفرد يُبتلى، والأُمم تُبتلى، ولا تَسير الحياة على وتيرة واحدة
الشدائد والابتلاءات سُنةٌ إلهية قدَّرها الله للأفراد والأُمم، فالفرد يُبتلى، والأُمم تُبتلى، ولا تَسير الحياة على وتيرة واحدة، وهذا هو قول الله - تبارك وتعالى -: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].
فما خلَقَنا الله - تبارك وتعالى - إلا لهذا الأمر: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37]، {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141].
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40].
ولا يَخفى على كلِّ مسلم ما تمرُّ به أُمتنا الإسلامية في هذه الأيام، من عمليَّة ولادة جديدة لهذه الأمة، ولا يخفى علينا جميعًا صعوبةُ هذه العملية، فلكل أُمة ميلادٌ، ولكل ميلاد مَخاضٌ، ولكل مخاض آلامٌ.
ولكن السؤال الذي يَفرض نفسه في ظل هذه الشدائد والفتن الكثيرة، ما هو سلوك المسلم تُجاهها؟ وما هي أهم الأخلاق والسلوكيات التي يتَّصف بها المسلم وقت الفتنة والشدة؟
نلخص في هذه المقالة بعض هذه السلوكيات، والتي من أهمها:
الالتجاء إلى الله مِفتاح الفرج:
فهل يُضارُّ من ارتمى في حماه؟ وهل يَخسر من تقرَّب إلى مولاه؟
لا يجد المسلم في هذه الأوقات إلا الله - تبارك وتعالى - فهو القادر على تغيير الحال، والخروج بنا إلى اليُسر بعد العسر، والفرَج بعد الشدة، فالقرآن الكريم يحكي لنا المواقف العظيمة، والتي لم يكن لها مخرج إلا بالله - تبارك وتعالى - قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22]، وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62].
يقول صاحب الظلال: "فالمضطرُّ في لحظات الكُربة والضيق، لا يجد له ملجأً إلا الله يدعوه؛ ليكشف عنه الضُّر والسوء، ذلك حين تضيق الحلقة، وتَشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، وتتهاوى الأسناد، وينظر الإنسان حوالَيه، فيجد نفسه مجردًا من وسائل النُّصرة وأسباب الخلاص، لا قوَّته ولا قوة في الأرض تَنجده.
وكل ما كان يَعُدُّه لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلَّى، وكل مَن كان يرجوه للكربة قد تنكَّر له أو تولَّى، في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة، فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملِك الغوث والنجدة، ويتَّجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسِيه من قبلُ في ساعات الرخاء، فهو الذي يُجيب المضطر إذا دعاه، هو وحده دون سواه يُجيبه ويكشف عنه السوء، ويرده إلى الأمن والسلامة، ويُنجيه من الضِّيقة الآخذة بالخناق.
والناس يَغفُلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء وفترات الغفلة، يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنُّصرة والحماية في قوة من قُوى الأرض الهزيلة، فأما حين تُلجئهم الشدة ويضطرهم الكَرب، فتَزول عن فِطرتهم غشاوةُ الغفلة، ويرجعون إلى ربِّهم مُنيبين مهما يكونوا من قبلُ غافلين أو مكابرين".
وتظهر صور الالتجاء إلى الله - تبارك وتعالى - في:
فهو من الأسلحة العظيمة في مقاومة الفتن، فقد أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - به، فقد جاء في صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تعوَّذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطَن».
وعلَّمَنا - صلى الله عليه وسلم - أن نتعوَّذ في دُبر كل صلاة من عذاب جهنَّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجَّال.
وها هو النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدرٍ يَضرب أروع الأمثلة في استخدام هذا السلاح القوي، فكان - صلى الله عليه وسلم - يُكثر الابتهال والتضرُّع، ويقول فيما يدعو به: «اللهم إن تَهلِك هذه العصابة، لا تُعبد بعدها في الأرض»، وجعل يَهتف بربه - عز وجل - ويقول: «اللهم أنجِز لي ما وعَدتني، اللهم نصرك»، ويرفع يديه إلى السماء حتى سقَط رداؤه عن مَنْكِبيه، وجعل أبو بكر يَلتزمه من ورائه، ويُسوِّي عليه رداءَه، ويقول - مشفقًا عليه من كثرة الابتهال -: "يا رسول الله، كفاك مُناشدتك ربَّك، فإنه سيُنجز لك ما وعدَك".
وها هو - صلى الله عليه وسلم - يوم الطائف، وكان يوم ابتلاءٍ عظيم وفتنة كبيرة، فأخذ - صلى الله عليه وسلم - يناجي ربَّه ويخاطبه بقوله: «اللهم إليك أشكو ضَعف قوَّتي، وقلة حِيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربي، إلى مَن تَكِلني؟ إلى بعيد يتجهَّمني، أم إلى عدوٍّ ملَّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ، فلا أُبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي! أعوذ بنور وجهك الذي أشرَقت له الظلمات، وصلَح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحلَّ عليَّ غضبك، أو يَنزل بي سَخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
فالدعاء والتضرُّع من أهم الأسلحة لمواجهة الفتن والابتلاءات، فما علينا إلا أن نَبتهل وندعو الله، ومن فضل الله علينا أن سنَّ لنا عبادة هي من أهم العبادات، ألا وهي القنوت في النوازل في الصلوات، فلا ينبغي لنا أن نتركه.
العبادة والطاعة والعمل الصالح:
أيضًا من الطرق التي يُخرَج بها من الفتن: العبادة في وقت الفتن، فإذا كثُرت الفتن، يُقبل الإنسان على العبادة؛ جاء في صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «العبادة في الهرَج - وفي رواية: في الفتنة - كهجرة إليَّ»؛ يعني بذلك أن لها ميزة وفضلاً وأجرًا عظيمًا في أوقات الفتن.
يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله - معلقًا على هذا الحديث: "وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتَّبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دينٍ، فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرَد من بينهم مَن يتمسَّك بدينه، ويعبد ربَّه، ويتَّبع مراضيَه، ويَجتنب مساخطَه، كان بمنزلة مَن هاجَر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به، متَّبعًا لأوامره، مُجتنبًا لنواهيه"؛ ا. هـ.
ونبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حزَبه أمرٌ، هُرِع وفَزِع إلى الصلاة.
حُسن الظن يُسرع النصر:
ومن الأشياء التي تَحدث أثناء الفتن والابتلاءات: سوء الظن، وهي أن يظنَّ كلُّ طرفٍ في الآخر أنه على خطأ، بل يتسارع البعض في إلقاء التُّهم على البعض الآخر، وذلك بوصفه بأقبح الألفاظ، وشتْمه بأقبح العبارات، فهل يليق بالمسلم ذلك؟! لا، لا يَليق به ذلك، بل عليه أن يُحسن الظن بأخيه، وهذا ما حثَّنا عليه دينُنا الحنيف، فقال الله - تبارك وتعالى - في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].
وفي الحديث المتَّفق عليه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إيَّاكم والظنَّ؛ فإن الظن أكذبُ الحديث».
فديننا الحنيف حرَّم الظن السيِّئ بالمسلمين؛ حتى يُصبح المجتمع قويًّا متماسكًا، قادرًا على التعافي بسرعة، وبالعكس لو انتشر هذا الخلق السيئ في المجتمع، لأصبح المجتمع المسلم كالغابة يأكل؛ القوي الضعيف، ويستعلي المنتصر على المهزوم، فما أحوجَنا إلى أن نُحسن الظن بعضنا ببعض! ولا نتسارع إلى إلقاء التُّهم على غيرنا من المسلمين، حتى نتثبَّت ونتيقَّن؛ فقد أوصانا المولى - تبارك وتعالى - بعدم الجري وراء الشائعات، والتي غالبًا ما تؤدي إلى سوء الظن، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
الأمل والتفاؤل سبيلنا للتغيير:
مهما ادْلهمَّت الخُطوب، ووقفت الحياة عن المسير، يبقى الأمل والتفاؤل هما خُلق هذه الحياة، فبهما يَستنشق الإنسان عبيرَ الحياة، ويُعيد الإنسان رُوحه التي كادت تخرج من جسده، ونحن في هذه الأحداث والفتن، ينبغي لنا أن نأمُل في المستقبل، ولا نستمع إلى كلام اليائسين القانطين من رحمة الله، فاليأس ضد الإيمان؛ {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
فها هو نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - تجتمع عليه الأحزاب من كلِّ مكان، ولكنه لا يَيئس ولا يَقنَط، ويَثق في نصر الله له، ويُبشِّر - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه، فيقول حينما عجَز أصحابه عن كسْر الصخرة، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ المِعْول، ثم ضرب الصخرة ضربة صدعتها، وتطاير منها شررٌ أضاء خَلل هذا الجو الداكن، وكبَّر - صلى الله عليه وسلم - تكبير فتحٍ، وكبَّر المسلمون، ثم ضربها الثانية فكذلك، ثم الثالثة فكذلك، تفتَّت الصخرة تحت ضربات الرجُل الأيِّد الجَلِد، الموصول بالسماء، الراسخ على الأرض، ونظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صحْبه وقد أشرق على نفسه الكبيرة شعاعٌ من الثقة الغامرة والأمل الحُلو، فقال: «أضاء لي في الأولى قصور الحِيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أُمتي ظاهرة عليها، وفي الثانية أضاء القصور الحُمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أُمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب، وأخبرني جبريل أن أُمتي ظاهرة عليها؛ فأبشِروا»، فاستبشَر المسلمون وقالوا: الحمد لله، موعود صادق، فلمَّا انسابت الأحزاب حول المدينة، وضيَّقوا عليها الخناق، لم تَطِر نفوس المسلمين شَعاعًا، بل جابهوا الحاضر المُر وهم مَوْطودو الأمل في غدٍ كريم؛ {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
أمَّا الواهنون والمرتابون ومرضى القلوب، فقد تندَّروا بأحاديث الفتح، وظنَّوها أمانيَّ المغرورين، وقالوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُخبركم أنه يُبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنتم تَحفِرون الخندق لا تستطيعون أن تَبرُزوا! وفيهم قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
وها هو - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا اشتدَّت ضَراوة قريش بالمستضعفين، ذهَب أحدهم - خبَّاب بن الأرَتِّ - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستنجد به، قال خبَّاب: شكونا إلى رسول الله وهو متوسِّد بُرده في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تَستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل، فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثم يُؤتى بالمِنشار، فيُوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظْمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليُتِمَّنَّ الله تعالى هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللهَ والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة:
وقت المِحن والشدائد لا بد من إلزام نزوات العواطف بنظرات العقول، وتغليب المصالح العامة على المصالح الخاصة، ومن أفضل المواقف في السيرة العَطرة، موقفه - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية، حينما جاءه وفدٌ من قريش لعمل الصلح والهُدنة، ورضِي النبي - صلى الله عليه وسلم - بشروط قريش المُجحفة؛ من أمثال: مَن أسلَم من المشركين، فليَرجع إليهم، ومَن كفَر من المسلمين، فلا يرجع إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فضَّل المصلحة العامة للدعوة على المصلحة الخاصة، فكان هذا الصلح فتحًا؛ كما سمَّاه الله - تبارك وتعالى -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1].
والصحابة - رضوان الله عليهم - حزِنوا حزنًا شديدًا بهذا الصلح، حتى رُوِي عن عمر بن الخطاب أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ألست برسول الله؟ قال: «بلى»، قال: أوَلسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى»، قال: أوَليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى»، قال: فعلامَ نعطي الدنيَّة في ديننا؟ قال: «أنا عبد الله ورسوله، ولن أُخالف أمره، ولن يُضيِّعني».
لقد هاجت في نفوس المسلمين مرة أخرى خيبةُ الأمل، لقد حُدِّثوا أنهم داخلون إلى المسجد الحرام، وها هم أُولاء قد ارتدُّوا عنه، وعرا المسلمين وجومٌ ثقيل لهذه النهاية الكئيبة، وزاغت نظراتهم لِما ركِبهم من الحرَج المفاجئ.
فلمَّا فرَغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قضية الكتاب، قال لهم: «قوموا فانحروا، ثم احلِقوا» - ليتحلَّلوا من عُمرتهم، ويعودوا إلى المدينة - فلم يقم منهم رجل! حتى قال ذلك ثلاث مرات! فلم يقمْ منهم أحد، فدخل - صلى الله عليه وسلم - على أمِّ سلَمة، فذكَر لها ما لقِي من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله، أتحب ذلك؟ اخرُج، ثم لا تكلِّم أحدًا منهم كلمة، حتى تَنحر بُدْنَك، وتدعو حالقك فيَحلقك، فخرج، فلم يكلِّم أحدًا منهم، حتى فعل ذلك، فلما رأى المسلمون ما فعل الرسول، زال عنهم الذهول، وأحسُّوا خطر المعصية لأمْره، فقاموا عجِلين يَنحرون هَدْيهم، ويَحلق بعضهم بعضًا، حتى كاد بعضهم يَقتل الآخر من فرْط الغمِّ.
وكثير من المؤرخين يُعد صلح الحديبية فتحًا، بل إن الزُّهْري يقول فيه: ما فُتِح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهُدنة ووُضِعت الحرب، وأَمِنَ الناس بعضُهم بعضًا، والتقوا فتفاوَضوا في الحديث والمنازعة، لم يُكلَّم أحدٌ بالإسلام يَعقِل شيئًا، إلا دخَل فيه، ولقد دخل في تَيْنِك السنتين - بعد الحديبية - مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
قال ابن هشام: والدليل على قول الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج عام فتح مكة - بعد ذلك بسنتين - في عشرة آلاف.
هكذا غلَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - المصلحة العامة على المصلحة الخاصة في وقت فتنة كبرى أصابت المسلمين، فتحوَّلت المِحنة إلى مِنحة، والعسر إلى يُسر، والشدة إلى فرَجٍ، والهزيمة إلى فتحٍ.
ففي وقت الفتن والشدائد لا بد من تغليب المصلحة العامة على الخاصة، هذه من سلوكيات المسلم وقت الفتن والشدائد.
الهروب من الفتن وعدم الولوج فيها؛ بألاَّ يتعرَّض المسلم لها، وخاصة عند خفاء الأمر:
بأن يبتعد المسلم عن أسبابها، وعن الأسباب الموصلة إليها، وعدم الاغترار بالنفس، إن المؤمن الصادق المتواضع الذي يخاف على نفسه، ومن خاف نجا، ومن أمِن هلَك.
فإذا رأيتَ فتنةً من الفتن فابتعِد، وإياك ومواطنَ الفتن والريب؛ حتى لا يُصيبك منها شيء، وقد علَّمنا سلفُنا هذا المنهج، فكانوا يخافون منها، فهذا ابن أبي مُليكة يقول: "أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخشى النفاق على نفسه"؛ ا. هـ.
وهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: "تكون فتنة لا يُنجِّي منها إلا دعاءٌ كدعاء الغرق"؛ ا. هـ؛ أي: الذي بلغ منه الخوف والوجَل، كخوف الذي أوشَك على الغرق.
فهذه الفتن هي الفتن التي لا يَظهر وجهها، ولا يُعلَم طريق الحق فيها، بل هي مُلتبسة، فهذه يجتنبها المؤمن ويَبتعد عنها بأي ملجأ، ويؤيِّد هذا ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفتن والقعود عنها؛ حيث قال: «إنها ستكون فتنٌ، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، مَن يَستشرف لها تَستشرفه، فمَن استطاع أن يعوذ بملجأٍ أو معاذٍ، فليفعل»؛ (رواه البخاري، ومسلم).
ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشك أن يكون خيرَ مال المرء المسلم، غنَمٌ يَتْبَع بها شَعَفَ الجبال، ومواقع القطْر؛ يَفرُّ بدينه من الفتن»؛ (رواه البخاري).
الرجوع إلى العلماء الربانيين المُعتبرين، هو ضمانة من ضمانات البُعد عن المِحن والفتن:
وكذلك لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وذلك بالرجوع إلى أهل السُّنة وعلماء السُّنة، الذين حصل لهم الفقه في كتاب الله - عز وجل - والفقه بسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ودرسوهما غاية الدراسة، وعرَفوا أحكامهما، وساروا عليهما.
__________________________________________________________
الكاتب: حسام العيسوي إبراهيم
- التصنيف: