الزلازل من أعظم المواعظ
فمن رحمة الله عز وجل بعباده أنه يُحدث أحياناً أموراً تذكرهم بآخرتهم, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد تحدث أحياناً حوادث غير معتادة تذكر بالنار
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن رحمة الله عز وجل بعباده أنه يُحدث أحياناً أموراً تذكرهم بآخرتهم, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد تحدث أحياناً حوادث غير معتادة تذكر بالنار, كالصواعق والريح الحارقة المحرقة للزرع...فكل هذه العقوبات بسبب المعاصي, وهي من مقدمات عقوبات جنهم وأنموذحها."
ومما يقدره الله جل وعلا: الزلازل, فتنهدم العمارات الشاهقة, وتسقط المباني المرتفعة, ويهرب من استطاع من ساكنيها هائمين على وجوههم, فزعاً وهلعاً, وخوفاً, باكين من شدة الخوف, ولا يستطيع من يصور تلك المواقف وتأثيرها إلا من شاهدها وعايشها, يقول الإمام السيوطي رحمه الله عن بعض السلف ممن شهد الزلزلة التي حدثت سنة (458 هجرية): كتابي عن نفس زاهقة، وأحشاء راجفة، وعقل ذاهب، وقلب ذاهل، وعين ممطرة، ودموع منسكبة، وغموم في الصدر مقيمة، وهموم على الفؤاد مخيمة، مما دُهينا به من زلزلة شديدة، ووهدة عظيمة، تصدعت منها الجبال، وتشققت منها التلال، وانقلبت القرى بأهلها، واستؤصلت من أصلها، ولم يسلم من ساكنيها إلا القليلُ، وهذا لعمري الخطب الجليل، وخرب أكثر بنيان البلاد، وهلك خلق لا يأتي عليهم العدد، وقامت القيامة قبل أوانها، وبدت آثار الساعة قبل أبانها، وكثر الويل والعويل، ولم ينجُ من الناس إلا القليل، والناس حيارى على الزائل، سكارى من الهول الهائل، والأرض تمرغ وتميد، وليس عما قضاه الله محيد.
الزلازل مناظرها قد تكون مؤلمة ومشاهدتها قد تكون مروعة, لكن فيها عظات, فهي من أعظم المواعظ لمن سلم من قلبه من القسوة, نسأل الله أن يُليّن قلوبنا.
فمن أعظم المواعظ أن يتذكر الإنسان الزلزلة العظيمة التي تكون يوم القيامة, يقول الله عز وجل:{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾} [الزلزلة:1_4]قال العلامة السعدي رحمه الله: يخبر تعالى عما يكون يوم القيامة وأن الأرض تتزلزل وترتجف, وترتج, حتى يسقط ما عليها من بناء وهدم, فتندك جبالها, وتستوي تلالها, وتكون قاعاً صفصفاً....وقال الإنسان إذا رأى ما عراها من الأمر العظيم: ﴿َما لَهَا﴾ ؟ أي: أي شيء عرض لها ؟ ﴿ {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ} ﴾ الأرض ﴿ {أَخْبَارَهَا} ﴾ أي: تشهد على العاملين, بما عملوا على ظهرها من خير وشر, فإن الأرض من جملة الشهود, الذين يشهدون على العباد بأعمالهم.
وقال الله عز وجل: ( { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ) [الحج:1-2] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ( {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} ) أي: أمر عظيم, وخطب جليل وطارق مفظع وحادث هائل وكائن عجيب والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والخوف. ( {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} ) أي: فتنشغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها, والتي هي من أشفق الناس عليه, تدهش عنه في حال إرضاعها له,
ولهذا قال: ( كُلُّ مُرْضِعَةٍ ) ولم يقل مرضع, ( {عَمَّا أَرْضَعَتْ} ) أي: عن رضيعها قبل فطامه, وقوله: ( {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} ) أي: قبل تمامه لشدة الهول.( {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ} ) أي من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه قد دهشت عقولهم, وغابت أذهانهم فمن رآهم حسب أنهم سكارى ( {وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} )
ومن المواعظ أن يكون الزلازل سبباً لتوبة العبد من جميع ذنوبه ومعاصيه, وتقصيره في طاعة الله, والإنابة إلى الله عز وجل, فمن رأى ما يحدث الزلزال من دمار وما ينتج عنه من أموات, لا بد أن يستيقظ من غفلته ويسأل نفسه ماذا لو كانت أنا ممن ماتوا تحت هذا الزلازل ؟ وعند ذاك يبادر عاجلاً بالتوبة والإنابة إلى الله, ويحمد الله جل وعلا أنه حي يرزق يستطيع عمل الصالحات, فهو اليوم من الناجين, ويرى الناجين من الزلزال, وغداً قد يكون منهم, فالزلازل لا تُنظر بقدومها, بل تأتي فجأة.
ومن المواعظ أن لا يأمن الإنسان عذاب الله ونكاله, الذي قد يأتيه نهاراً وهو يلعب, وقد يأتيه ليلاً وهو نائم, قال الله سبحانه وتعالى: {﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾} [الأعراف:96_97]
فينبغي الخوف والوجل وأن لا يكون حال المؤمن كحال المنافق, قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف, والمنافق يعمل بالمعاصي وهو آمن.
إن من علامة قسوة القلب أن لا تؤثر الزلازل المدمرة المهلكة في بعض الناس, فيرى أنها مجرد ظواهر طبيعية وهي وإن كان لها أسباب فهي من الآيات التي يُخوف بها الله عز وجل عباده بسبب ذنوب العباد ومعاصيهم, قال كعب الأخبار رضي الله عنه: إنما تزلزل الأرض إذا عمل فيها المعاصي، فترعد فرقًا من الرب جل جلاله أن يطلع عليها.
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: من تأثير المعاصي في الأرض: ما يحلّ بها من الخسف والزلازل ومحق بركتها.
وختاماً فمن مات بالزلزال فهو من الشهداء, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( الشهداء خمسة:....وصاحب الهدم )) [أخرجه مسلم] قال العلامة العثيمين رحمه الله: (( صاحب الهدم )) أي: الذي ينهدم عليه البيت, فيهلك, سواء كان الانهدام بكثرة السيول, أم بخلل البيت, أم بالزلازل, فإنه يكون شهيداً.
اللهم أيقظ قلوبنا من غفلتها, ووفقنا للتوبة والإنابة, واجعلنا ممن يعتبر بما يرى ويشاهد من زلازل وحوادث.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
ــــــــــــــــ
- التصنيف: