زلزال الأرض وزلزال القلوب
الزلازل بِنَصِّ القرآن اثنان: 1- زلزالٌ في الأرض، 2- فهو زلازل القلوب، وهذا هو الأخطر.
أيها الأحبة الكرام:
الكل رأى هذا المنظر الرَّهيب الذي تبثُّه وبثَّتْه شاشات التلفزة، ذلك البلد الذي يُضرَب به المثل في الصِّناعة والزراعة، والتقدُّم والتطوُّر، والتعلُّم والتعليم، والتكنولوجيا والأسلحة، بلد عملاق يُضرَب به المثل في كلِّ ذلك، وإذا به في أوقاتٍ لا تتعدَّى الثواني والدَّقائق واللحظات تتزلزَلُ الأرض بقوَّة الجبَّار سبحانه مِن تحته، فلا يرى بارِجَاته التي صنَعَها، ولا أبنِيَتَه التي بناها؛ الأمُّ لا تجد بنتها، والأب لا يجد ابنه، هلع وفزع، وامتحان واختبار، وفتنة بِمُجرَّد زلزالٍ صغير أمر به الواحد الأحد... الله أكبر.
يذكِّرنا ذلك بقول الله - تبارك وتعالى -: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 1 - 4]، آيات قليلاتٌ في سورةٍ نَحفظها كلُّنا، لكننا لَم نقف عليها، وهذا تقديرٌ إلهي، إنَّ الله يعيد لك الأيام، وإنه يستنطِقُ هذه الآياتِ مرَّة أخرى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]، لماذا فعلَتْ ذلك؟ {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 5 - 8].
نعَم، الآيات نزلت تتحدَّث عن يوم القيامة، عن ذلك اليوم الرَّهيب، وبدأ الله تعالى الآيات بـ"إذا"، و"إذا" تفيد تحقُّقَ الشيءِ ووقوعَه، والأمثلة من هذا في القران كثيرة جدًّا.
وهذا - نعم - سيقع في يوم القيامة؛ لكن الذي وقع في اليابان وغيرها من الدُّول هو علامةٌ من علامات السَّاعة التي أخبر بها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
أنواع الزلازل:
والزلازل بِنَصِّ القرآن اثنان، أيُّها الأحبة الكرام:
زلزالٌ في الأرض - هذا الذي حصل - وهو من علامات الساعة التي أخبر بها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل أن يقع الزلزال الذي تلَوْناه قبل قليل في يوم القيامة؛ فقد أخرج البخاريُّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «لا تقوم الساعة حتى تظهر الفِتَن، وتكثر الزلازل، ويكثر الهَرْج»، فقيل: وما الهَرْجُ يا رسول الله؟ فقال: «القتل، القتل».
والروايات في هذا كثيرة جدًّا، وهذا القتل أيضًا الآن يحصل، سواء بفعل الناس بعضهم ببعض كما نشاهد بعيننا، أم بفعل الأوامر الإلهيَّة للمخلوقات الكونية.
في لحظاتٍ فقط، وليست في أيام، ولا في شهور، ولا في أسابيع، ولا في سنين، لا تتعدَّى الثواني بمقياس أهل التطوُّر... إذا قضى الله أمرًا فإنما يقول له كن فيكون.
وأما النَّوع الثاني من أنواع الزلازل، فهو زلازل القلوب، وهذا هو الأخطر إخوة الإيمان، وهناك الخشية الحقَّة من غضب الله - تبارك وتعالى.
أتينا بِهذا النَّوع من الزلازل مِن مصداق قول الله تعالى: {إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11]، وهذا المشهد يدعو المؤمنَ إلى أخذ هذه الإيحاءات الحيَّة؛ من أجل أن يصحِّح حياته فيها؛ لأنَّها ما أتت إلا للعِبَر والعظات.
وهذا الكلام في حقِّ الذين تَمالَؤوا على حرب النبِيِّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وشدة ما حصل بهم، فزُلزِلوا زلزالاً شديدًا، فهذا النوع الثاني من الزلازل؛ أيْ: إنَّ من القلوب من تتزلزل عند الفتن والمِحن والابتلاءات، كما تزلزل الصَّحابة - رضي الله عنهم - كما في الآية الكريمة، لماذا تزلزلت قلوبُهم؟ ما الذي حدث؟
أتى وفدٌ من اليهود إلى وفدٍ من قريش يحرِّضوهم على حرب النبيِّ، وقالوا لهم: إن سرتُم معنا فإننا سنقضي على محمَّد وأتباعه، وتعاونوا عليهم، ووافقوا ليكون من بني النضير 6000 مقاتل، ومن قريش 4000 مقاتل، فأصبحوا 10000 مقاتل.
يقول أهل السِّيَر: "ولربما كان العدد أكثر من سكان مدينة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -"؛ ولِهذا صوَّرَه الله تعالى بهذا التصوير الجميل.
وبعد أن استشار النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأشار سلمانُ بالخطَّة الفارسيَّة، حفروا الخندق، وهناك حدثَتْ صورٌ لزلزلة القلوب؛ ولهذا يَروي لنا أبو طلحة - رضي الله عنه - قال: "فشدَدْنا على بطوننا من الجوع عن حجرٍ حجر، وكشف النبيُّ بطنه وقد رفع عليها من الجوع عن حجرَين حجرين"، وهذا مِن شدة الجوع، وكان - بأبي هو وأمي - جائعًا أكثر منهم، وكان تَعِبًا أكثر منهم.
وأمَّا الصورة الأخرى، فإنَّ الصحابة عندما كانوا يترامون بالنَّبل فاتتهم صلاة العصر، والنبيُّ بين أظهُرهم، فقال النبيُّ كما روى الإمام عليٌّ: «ملأ الله قبورهم وبيوتَهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى».
وبعد أن بقي الأمر على هذا الحال، أرسل الأحزابُ مَن كان بالمدينة مِمَّن كان عنده عهدٌ مع المسلمين، وهم بنو قريظة، حتَّى استطاعوا أن يُقنعوه بِنَقض العهد، وكان قائِدُهم كعبًا القرظيَّ، فوصل الخبرُ إلى النبي وأصحابه أنَّهم بدؤوا يُغِيرون على مَن كان بالمدينة من النِّساء والأطفال؛ لأنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان قد استخلف عبدَالله ابن أمِّ مكتومٍ عليها؛ لأنَّه ما من رجلٍ قادر على الجهاد إلاَّ وخرج في صفوف المسلمين.
ثم بدأ النِّفاق يدبُّ في القلوب، فقال المنافقون: "إنَّ بيوتنا عورة"، قال تعالى: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13]، وهذا كلُّه تزلزل قلبي عجيبٌ وعصيب.
ولَم تنجَلِ هذه الغمامة بعد أن اشتدَّت على المسلمين وعلى رسول الله حتَّى ألَحَّ المؤمنون بالدُّعاء؛ كانوا يقولون: "اللَّهم مُنْزِل الكتاب، هازم الأحزاب، اهزمهم وزلزِلْهم"، فانتقلت الزلزلة من قلوب المؤمنين إلى قلوب المنافقين كما جاء في نصِّ الكتاب.
فسخَّر الله لهم نُعَيمَ بن مسعودٍ الذي أسلم خُفْية، فاستطاع أن يفرِّق بين جموع الأحزاب، وقال النبيُّ له: «إنَّما أنت رجلٌ واحد، فخَذِّل عنَّا ما استطعت؛ فإنَّ الحرب خَدْعة».
فانجلَتْ هذه الغُمَّة بعد الاستقامة على شرع الله، المتمثِّلة في الدعاء إلى ربِّهم، والاستغاثة به - جلَّ وعلا.
فسبيل الخلاص من هذه الفتن والزلازل بنوعيها هو الاستقامة، وهو ما استخدمه الصحابة.
هل نستطيع أن نستقيم على شرع الله تعالى حتى نلقى الله؟ لا نقصد الزلاَّت، وإنَّما الاستقامة الدائمة.
فكلُّنا عندنا هفوات، لكن بعض الناس يأتي إلى الإيمان، ثم في لَمْح البصر يسقط سقوطًا شديدًا في هاوية المعاصي والكبائر!
كان عمر بن الخطَّاب يومًا جالِسًا مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فرأى في رأسه - عليه الصَّلاة والسَّلام - شعراتٍ بيضًا، قال: أراك شبتَ يا رسول الله، فقال: «نعَم يا عمر، شيَّبتْني هود وأخواتُها»، فقال عمر: وما الذي شيَّبك فيها؟ فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112]، فالاستقامةَ يا إخوتي.
وقد قال العلماء: "الاستقامة أعظم كرامة"، إذا أراد الله أن يكرم الإنسان جعَله مستقيمًا على طاعة الله حتَّى يلقاه.
وعن الحارث بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه -: أنه مرَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال له: «يا حارث، كيف أصبَحْت» ؟ قال: أصبحتُ مؤمنًا حقًّا، قال: «انظُر ما تقول، إنَّ لكل شيءٍ حقيقةً، فما حقيقتك» ؟ قال: ألَسْتُ قد عزَفَت نفسي عن الدُّنيا، وأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي، وكأنِّي أنظر إلى عرش ربِّي بارزًا، وكأنِّي أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، يعني: يصيحون، قال: «يا حارث، عرفتَ فالزَمْ»؛ (ثلاث مراتٍ) .
ولما مات حارثة أتت أمُّ الربيع بنتُ البراء، وهي أم حارثة بنِ سراقة، أتَت إلى النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: يا نبيَّ الله، ألا تحدِّثُني عن حارثة - وكان قُتِل يوم بدر، أصابه سهمٌ غربٌ - فإن كان في الجنَّة صبَرتُ، وإنْ غَيْر ذلك اجتهدتُ عليه في البكاء قال: «يا أمَّ حارثة، إنَّها جنانٌ في الجنَّة، وإن ابنك أصاب الفردوسَ الأعلى».
كل هذا وكان عمره 17 عامًا.
وهذا صحابيٌّ آخر كان اسمه عبدالعُزَّى، وسماه رسول الله ذا البجادين، كان يتيمًا، لا مال له، فمات أبوه ولَم يورثه شيئًا، وكفله عمُّه حتَّى أيسر، فلما قدم النبيُّ المدينةَ جعلَتْ نفسُه تتوق إلى الإسلام، ولا يقدر عليه من عمِّه، حتَّى مضت السنون والمشاهد، فقال لعمه: يا عم، إنِّي قد انتظرتُ إسلامك، فلا أراك تُريد محمَّدًا، فائذن لي في الإسلام، فقال: والله لئن اتَّبعتَ محمَّدًا لا أترك بيدك شيئًا كنتُ أعطيتُكَه إلاَّ نزعتُه منك، حتَّى ثوبيك، قال: فأنا واللهِ متَّبِعٌ محمدًا، وتاركٌ عبادةَ الحجَر، وهذا ما بيدي فخُذه، فأخذ كل ما أعطاه حتَّى جرَّدَه من إزاره، فأتى أمَّه، فقطعت بجادًا لها باثنين، فائتزر بواحد وارتدى بالآخر، ثم أقبل إلى المدينة، وكان بِوَرقان، فاضطجع في المسجد في السَّحَر، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتصفَّح الناس إذا انصرف من الصُّبح، فنظر إليه، فقال: «من أنت» ؟، فانتسب له، وكان اسمه عبدالعزى، فقال: «أنت عبدالله ذو البِجادَيْن»، ثم قال: «انزل منِّي قريبًا»، فكان يكون في أضيافه، حتى قرأ قرآنًا كثيرًا.
فلمَّا خرج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى تبوك قال: ادع لي بالشهادة، فربط النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على عضده لِحَى سَمُرة، وقال: «اللهم إنِّي أحرم دمَه على الكفَّار»، فقال: ليس هذا أردتُّ، قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنك إذا خرجت غازيًا فأخذتك الحمى فقتلَتْك فأنت شهيد، أو وقصَتْك دابَّتُك فأنت شهيد».
فأقاموا بتبوك أيَّامًا، ثم توُفِّي، قال بلالُ بن الحارث: حضرتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومع بلالٍ المؤذِّن شعلةٌ من نار عند القبر، واقِفًا بها، وإذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يقول: «أدنِيَا إليَّ أخاكما»، فلمَّا هيَّأه لشقِّه في اللَّحد، قال: «اللهم إني قد أمسيتُ عنه راضيًا، فارْضَ عنه»، فقال ابن مسعود: ليتَنِي كنتُ صاحبَ اللَّحد!
وعن أبي وائل، عن عبدالله قال: والله لكأنِّي أرى رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غزوة تبوك، وهو في قبر عبدالله ذي البجادين، وأبو بكرٍ وعمرُ، يقول: ((أدنِيا إليَّ أخاكما))، وأخذه من قِبَل القبلة حتَّى أسكنه في لحده، ثم خرج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وولَّياهما العمل، فلمَّا فرغ من دفنِه استقبل القبلة رافِعًا يديه يقول: «اللهم إنِّي أمسيتُ عنه راضيًا، فارض عنه» وكان ذلك ليلاً، فوالله لوددتُ أنِّي مكانه، ولقد أسلمتُ قبله بخمسَ عشرةَ سنة.
هذه هي الاستقامة، تنجيك من أوحال زَلازل الأرض، وزلازل القلوب، اللَّهم فنجِّنا من الفِتَن ما ظهر منها وما بطن، نسأل الله تعالى أن يَجعل القرآن العظيم ربيعَ قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وسائقَنا ودليلنا إليه، إلى جنَّات النعيم، اللهم ذكِّرنا منه ما نُسِّينا، وعلِّمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوتَه آناء الليل وأطراف النَّهار، على الوجه الذي يُرضيك عنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
مثنى الزيدي
السيرة الذاتية الشيخ مثـنى الزيدي، نسبة لقبيلة بني زيد المعروفة في الوطن العربي، باحث وداعية إسلامي عراقي، مهتم بالشؤون العلمية الإسلامية، حاصل على شهادتي البكالوريوس من جامعة بغداد، والدبلوم العا
- التصنيف: