وَسَعَى فِي خَرَابِهَا
خالد سعد النجار
{وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } عمل في هدمها وتخريبها حقيقة (خراب حسي) أو بمنع الصلاة فيها وصرف الناس عن التعبد فيها (خراب معنوي).
- التصنيفات: التفسير -
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة]
{{وَمَنْ أَظْلَمُ}} الاستفهام للإنكار والنفي، والمعنى: لا أحد أظلم. والميزان الذي يبيِّن أن الاستفهام بمعنى النفي أنك لو حذفت الاستفهام، وأقمت النفي مقامه لصح؛ والفائدة من تحويل النفي إلى الاستفهام أنه أبلغ في النفي؛ إذ إن الاستفهام الذي بمعنى النفي مشرب معنى التحدي؛ كأنه يقول: بيِّنوا لي أيّ أحد أظلم من كذا وكذا.
وأصل الظلم في اللغة «النقص»؛ وهو أن يفرط الإنسان فيما يجب؛ أو يعتدي فيما يحرم؛ ويدل على هذا قوله تعالى: {{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً}} [الكهف:33] أي لم تنقص؛ وهو في الشرع بهذا المعنى؛ لأن الظلم عبارة عن تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم ــــ وهذا نقص.
والظلم أيضا الاعتداء على حق الغير بالتصرف فيه بما لا يرضى به، ويطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن يوضع فيه، والمعنيان صالحان هنا.
وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن، وهذا أول موارده، فقال تعالى: {{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ}} [البقرة:140] {{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ}} [الأنعام:21] {{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ}} [الأنعام:93] { {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} } [الكهف:57] إلى غير ذلك من الآيات.
{ {مِمَّن}} من الذي {{مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ} } أضاف المساجد لله تشريفا، وخصّ بلفظ المسجد، وإن كان الذي يوقع فيه أفعالاً كثيرة من القيام والركوع والقعود والعكوف. وكل هذا متعبد به، ولم يقل: مقام ولا مركع ولا مقعد ولا معكف، لأن السجود أعظم الهيئات الدالة على الخضوع والخشوع والطواعية التامة. ألا ترى إلى قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ) » [مسلم]، وهي حالة يلقي فيها الإنسان نفسه للانقياد التام، ويباشر بأفضل ما فيه وأعلاه -وهو الوجه- التراب الذي هو موطىء قدميه.
{{أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}} لأن العبادة هي علة الحياة، فمن منعها كان كمن أفسد الحياة كلها وعطلها.
وكنى بذكر اسم الله عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقرّبات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية، من تلاوة كتبه، وحركات الجسم من القيام والركوع والسجود والقعود الذي تعبد به خلقه، وإنما ذكر تعلق المنع بذكر اسم الله تنبيهاً على أنهم منعوا من أيسر الأشياء، وهو التلفظ باسم الله. فمنعهم لما سواه أولى.
{وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } عمل في هدمها وتخريبها حقيقة (خراب حسي) أو بمنع الصلاة فيها وصرف الناس عن التعبد فيها (خراب معنوي).
ومن أمثلة الحسي خراب بيت المقدس، على يد بختنصر أو غيره وهذا القول يبينه ويشهد له قوله جل وعلا: {{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً}} [الإسراء:7].
ومن أمثلة الخراب المعنوي صد المشركين النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن البيت الحرام في عمرة الحديبية عام ست، كما قال تعالى: {{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}} [الفتح:25].
{{أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ}} بشارة من الله عز وجل أن هؤلاء الذين منعوا المساجد - ومنهم المشركون الذين منعوا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسجد الحرام - ستكون الدولة عليهم، ولا يدخلونها إلا وهم ترجف قلوبهم.
وقيل: منعوا مساجد الله في حال أنهم كان ينبغي لهم أن يدخلوها خاشعين من الله فيفسر الخوف بالخشية من الله، فلذلك كانوا ظالمين بوضع الجبروت في موضع الخضوع.
قال في البحر المحيط: والظاهر أن المعنى: أولئك ما ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا وهم خائفون من الله وجلون من عقابه. فكيف لهم أن يلتبسوا بمنعها من ذكر الله والسعي في تخريبها، إذ هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه {{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}} [النور:36]؟ وما هذه سبيله ينبغي أن يعظم بذكر الله فيه، ويسعى في عمارته، ولا يدخله الإنسان إلا وجلاً خائفاً، إذ هو بيت الله أمر بالمثول فيه بين يديه للعبادة.
ونظير الآية أن يقول: ومن أظلم ممن قتل ولياً لله تعالى؟ ما كان له أن يلقاه إلا معظماً له مكرّماً، أي هذه حالة من يلقى ولياً لله، لا أن يباشره بالقتل. ففي ذلك تقبيح عظيم على ما وقع منه، إذ كان ينبغي أن يقع ضده، وهو التبجيل والتعظيم.
ولما لم يقع هذا المعنى الذي ذكرناه للمفسرين، اختلفوا في الآية على أقوال. ولو أريد ما ذكروه، لكان اللفظ: أولئك ما يدخلونها إلا خائفين، ولم يأت بلفظ: ما كان لهم، الدالة على نفي الابتغاء.أهـ
{{لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} } ذل وهوان { {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} } هذا الجزاء مناسب لما صدر منهم.
أما الخزي في الدنيا فهو الهوان والإذلال، وهو مناسب للوصف الأول، لأن فيه إهمال المساجد بعدم ذكر الله وتعطيلها من ذلك، فجوزوا على ذلك بالإذلال والهوان.
وأما العذاب العظيم في الآخرة، فهو العذاب بالنار، وهو إتلاف لهياكلهم وصورهم، وتخريب لها بعد تخريب {{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ}} [النساء:56] وهو مناسب للوصف الثاني، وهو سعيهم في تخريب المساجد، فجوزوا على ذلك بتخريب صورهم وتمزيقها بالعذاب.
ولما كان الخزي الذي يلحقهم في الدنيا لا يتفاوتون فيه حكماً، سواء فسرته بقتل أو سبي للحربي، أو جزية للذمي، لم يحتج إلى وصف.
ولما كان العذاب متفاوتاً، أعني عذاب الكافر وعذاب المؤمن، وصف عذاب الكافر بالعظم ليتميز من عذاب المؤمن.
{{وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ}} الاستقبال بالوجوه، أي تتجهوا {{فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ}} هناك الله، إذ الله -عز وجل- محيط بخلقه، فحيثما اتجه العبد شرقاً أو غرباً شمالاً أو جنوباً وجد الله تعالى، إذ الكائنات كلها بين يديه وكيف لا يكون ذلك وقد أخبر عن نفسه أن الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، فليس هناك جهة تخلو من علم الله تعالى وإحاطته بها وقدرته عليها. ويقرر هذا قوله {{إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ}} واسع الذات والصفات والعلم والقدرة والفضل والجود والكرم {{عَلِيمٌ}} بكل شيء لأنه محيط بكل شيء.
وجاءت هذه الآية مؤكدة بـ «إن» مصرحاً باسم «الله» فيها دلالة على الاستقلال. كما في قوله تعالى: { {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} } [البقرة:110] وكقوله: { {وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} } [البقرة:199] وذلك أفخم وأجزل من الضمير «إنه»، لأن الضمير يشعر بقوة التعلق والظاهر يشعر بالاستقلال.
ألا ترى أنه يصح الابتداء به، وإن لم يلحظ ما قبله؟، بخلاف الضمير، فإنه رابط للجملة التي هو فيها بالجملة التي قبلها.
وألا ترى إلى أن أكثر ما ورد في القرآن من ذلك إنما جاء بالظاهر؟ كقوله تعالى: {{فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً}} [النساء:103] { {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}} [البقرة:20]