لماذا يخافون من القرآن؟
لماذا يخافون من القرآن؟ لأنه يحبط كل مخططاتهم لحرب إسلامنا والسعي لتدميره؛ بل يغزو الكفر وأهله في عُقْر داره، ولو خلَّى بينه وبين الناس لأقتادهم إليه طائعين مذعنين في حبٍّ ورغبة؛ لذلك فهم يخافون منه.
خوف ووجل، ذعرٌ يسيطر على قلوبهم وأفئدتهم، أقضَّ مضاجعهم، فهبُّوا لحربه وحجبه عن الناس، واستفرغوا في ذلك طاقتَهم، وبذلوا وسعهم، وأنَّى لهم ذلك وقد وصل إلى أسماع وقلوب الكثيرين؛ فبعث فيها الحياة والنور والهدى؟! فهو روح الحياة ونعيم القلوب، ودواء الأدواء، جن جنونُهم، وخارت قواهم، فما هو؟ ومَنْ هم؟ ولماذا يخافون منه؟
للإجابة عن هذه التساؤلات تأمَّلوا هذه القصة «... خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فرده، وقال له: أَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلادِكَ، فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلا يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ، فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلا يَسْتَعْلِنْ بِهِ؛ فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلا يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاةِ، وَلا القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لا يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ القُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ»؛ رواه البخاري.
لعل الإجابة قد اتضحت، أما هو فالقرآن، وأما هم فالكفار والمنافقون، وأما سبب خوفهم وذعرهم؛ فلأنه يُحرِّر العقول من الجهل والخرافة، والقلوب من الضلال والزيغ، والنفس من الضنك والشقاء، وتلك أدواء الكفر والكُفَّار، فإن الذي يعيش في ظلام يسعد بالنور، ويهرع إليه فرحًا مسرورًا، ومَنْ يُعاني الأدواء يفرح بالدواء الذي يُخفِّف عنه وطأة ذلك الداء، تأمَّل حال نساء المشركين وأبنائهم عند سماع القرآن "فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ" هكذا اجتذبهم القرآن إليه؛ ولذلك قالها الكُفَّار صريحة: "وَلا يَسْتَعْلِنْ بِهِ؛ فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا"؛ بل كان كفار قريش أنفسهم يتوافدون كل ليلة لسماع تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يتعاهدون ألَّا يعودوا فيعودون حتى إنهم ليلة سجد النبي صلى الله عليه وسلم، فسجدوا معه، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمُونَ وَالمُشْرِكُونَ وَالجِنُّ وَالإِنْسُ»؛ (رواه البخاري) .
لذا فهم يخافون من القرآن؛ "لأنه يجتثُّ بنيان كُفْرهم وشركهم وجاهليتهم من قواعده، يستأصل شأفته؛ ولذلك فهم يشنون عليه حربًا لا هوادة فيها، ويجهدون في إلصاق التُّهَم به وبأهله، والحيلولة بين الناس وبينه، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، ومفهوم كلامهم أنهم إن لم يلغوا فيه؛ بل استمعوا إليه، وألقوا أذهانهم، أنهم لا يغلبون"[1]؛ ولذلك اجتهدوا ليصدُّوا الناس عنه ولكن أنَّى لكَفٍّ أن تحجب ضوء الشمس؟! هذه شهادة الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَةِ لما جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فرجع إلى قومه يعلنها صريحة "...َوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ"؛ صححه الحاكم، ووافقه الذهبي[2].
لماذا يخافون من القرآن؟ لأنه ينفذ إلى القلوب التي تقبل عليه، فيبسط عليها سلطانه، فلا تملك إلا أن تخشع لكلام ربِّها، وتذعن له، فتؤمن به دون تردُّد.
تأمَّل هذه القصة عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37]، قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ"؛ (رواه البخاري) .
عجيب هذا القرآن تأمَّل ماذا فعل بالجن عند سماعه؟! {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1، 2]، وقالوا عنه: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1، 2].
ويُصوِّر القرآن حالهم عند سماعهم لتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19]، هذا هو تأثير القرآن، وهذه جاذبيته، وهذه سطوته على الجن، فكيف بسطوته على قلوب البشر؟! لذا فهم يخافون منه.
لماذا يخافون منه؟ لأنه يتسلل إلى قلوب قساوسة ورهبان النصارى فانقادوا له، فما بالك بغيرهم؟! {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] يا الله! يسمعونه فتخشع قلوبهم وترق وتدمع عيونُهم من شدة التأثر به، إنه يقودهم إلى الإيمان والهدى؛ ولذلك حق للأعداء أن يخافوا منه.
ماذا فعل القرآن في نجاشي الحبشة رضي الله عنه "لما قرأ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه مطلع سورة مريم؟ بكى والله النجاشي حتى أخضلَ لحيتَه، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفَهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: "إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة"؛ (رواه أحمد وصححه الألباني) .
عباد الله، لماذا يخافون من القرآن؟ لأنه يحبط كل مخططاتهم لحرب إسلامنا والسعي لتدميره؛ بل يغزو الكفر وأهله في عُقْر داره، ولو خلَّى بينه وبين الناس لأقتادهم إليه طائعين مذعنين في حبٍّ ورغبة؛ لذلك فهم يخافون منه.
لقد أدرك أعداء الدين منذ نزوله إلى يومنا هذا ذلك الأثر الذي يحدثه القرآن في القلوب فبالغوا في حربه والحيلولة بينه وبين الناس، وصدق الله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، إنهم يخافون من القرآن ويدركون أثره في إحباط كل مخططاتهم؛ ولذلك نوَّعُوا أساليب حربه: مرة بالزعم أنه متناقض، وأنه كذب مفترى، ومرة بتشويه صورة الإسلام والمسلمين ووصفه وصفهم بالإرهاب، وتوظيف الآلة الإعلامية لذلك باستغلال الأخطاء التي يقع فيها بعض المسلمين، ومرة بالتحريض على امتهان القرآن وحرقه وتمزيقه لإذكاء الكراهية له في قلوب الناس، ومرة من خلال تسويق السلوك الغربي المنحرف، وإغراق المجتمع الإسلامي بالثقافة الغربية وإشغالهم باللهو والغفلة والانحلال والمجون لإبعادهم عن القرآن وإشغالهم عنه.
ومع كل هذا الحقد الدفين ها هو القرآن يغزو الغرب النصراني في عقر داره، ويقتاد القلوب إلى الله، فالكثير منهم يدخل في الإسلام بمجرد سماع القرآن.
عباد الله، متى نعود إلى كتاب ربِّنا جل وعلا وسُنَّة نبيِّهم صلى الله عليه وسلم لنسعد في الدنيا وننال المجد والعِزَّة والسؤدد؟!
كيف حالنا مع القرآن؟ هل أقبلنا على تلاوته؟ هل ربَّينا أنفسنا وأهلينا عليه؟
إن مهمة أهل الإسلام أن يعودوا إلى كتاب ربِّهم، إلى حفظه، إلى سماعه، إلى تدبُّره، إلى العمل به، وإلى معرفة هدي نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، والتأسِّي به، وعندها ستفرح بهم الدنيا كل الدنيا.
إن من أعظم الأدوار التي ينبغي إن نوليها اهتمامنا أن نُربِّي الأجيال منذ نعومة أظفارهم على كتاب الله على محبَّته وتدبُّره والعمل به.
إنَّ مهمة أهل الإسلام أن يُبشِّروا الدنيا كل الدنيا بالقرآن، مهمتهم أن يستفرغوا جهودَهم وطاقاتهم لدلالة القلوب المتعطِّشة إلى النجاة من الضنك والشقاء على القرآن، الذي لا نجاة لهم من بؤسهم إلَّا به، فهل يعي أهل الإسلام مهمتهم والدور المناط بهم؟ اللهم اجعل القرآن العظيم ربيعَ قلوبنا، ونورَ صدورنا، وجلاءَ أحزاننا.
[1] تيسير الكريم الرحمن (ص: 748).
[2] وصححه الألباني في صحيح السيرة، والوادعي في صحيح أسباب النزول.
__________________________________________________
الكاتب: أ. شائع محمد الغبيشي
- التصنيف: