النفس بين الوحشة والأنس
محمد نصر
الإنسان منا في مراحل حياته المختلفة لا يستطيع العيش أبدًا دون وجود دعم معنوي
- التصنيفات: مجتمع وإصلاح -
يَدَّعي بعض الناس أنه يستطيع العيش دون الحاجة إلى غيره في المجتمع، لا يقصد بذلك الحاجة التعاملاتية المادية في البيع والشراء وغير ذلك، ولكنه يقصد الحاجة المعنوية، فيقول: إن الحياة دون وجود مشاعر متبادلة بينه وبين غيره من المجتمع، هي حياة سهلة وأفضل بكثير من وجود نوع ما من المشاعر لديه، وحجته في ذلك أن المشاعر تُشتت الذهن، وتُبدد الطاقة، وتُضيع الأوقات، وتستنزف الأموال، وتغير الأولويات، لكن حُجته زائفة، بل زائلة ببساطة شديدة، فالإنسان منا في مراحل حياته المختلفة لا يستطيع العيش أبدًا دون وجود دعم معنوي، هذا الدعم يتحول إلى صورة مشاعر داخلية؛ فالطفل لا يمكنه التعلم والتقليد إلا في حالة وجود شعور تجاه ذلك التقليد، فيُقلد أباه في مشيته، وأمه في بسمتها، وأخاه في لعبته، ويقلد المعلم أملًا أن يكون مثله، وينطق بالكلام لتحقيق الحصول على رغباته، ويكون الدافع الحقيقي في كل ذلك هو الحب، فالكره والحب والتطلع لتقليد الغير أنواع من المشاعر.
يكبر الطفل ويُقال إن أهدافه ودوافعه في الحياة تغيرت كليًّا أو جذريًّا، لكن في الحقيقة أنها قد تغيرت تغيرًا جُزئيًّا ظاهريًّا، فإنه مثلًا في تغير الأهداف الدراسية من مجرد النجاح أملًا في سماع كلمة ممتاز، أو الحصول على هدية من المعلم أو الأسرة، كان التغير متجهًا ناحية الشغف بالنجاح، والتعلق بالتعلم ومعرفة الجديد، حُب العلم وكُره الجهل، ولن يستطيع أن يكمل في سبيل العلم أبدًا دون وجود مشاعر دفينة تُوجهه، ربما أكون خرجتُ عن مضمون الحديث، لكن نعود إليه، الدعم المعنوي الذي ينشده كل الناس هو في الحقيقة أهم أنواع الدعم، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، في حادثة من أعظم ما حدث على ظهر الأرض، بعد أن نزل الروح الأمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول آيات القرآن الكريم، نزل من جبل حِراء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خوفًا مما رأى إلى بيت زوجه خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، مُناديُا: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، «دَثِّرُوني دَثِّرُوني»، فلمَّا زُمِّلَ ودُثِّر، واستمعت إليه زوجه الكريمة، كان الدفء الحقيقي الذي ينشده الناس ذوو القلوب النقية، كان دفء كلماتها عظيمًا، لدرجة أنه لا زال ذلك الدفء يسري في القلوب المؤمنة إلى هذا اليوم، فقالت: كلَّا! والله ما يُخزيك الله أبدًا؛ إنك لَتَصِل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتكسِبُ المعدومَ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فكان لتلك الكلمات القلائل أثر عظيم في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم، ورغم أن هذا القلب قلب نبي مُرسل، فإن تلك الكلمات كانت بليغة الأثر في استكمال الدعوة.
موسى عليه السلام لما كُلِّفَ بمهمة الرسالة وإبلاغ فرعون، سألَ الله عز وجل أن يَشدد أزره بأخيه، فدعا اللهَ قائلًا: {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31]، وقال: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص: 34]، فكانت الإجابة من الله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35].
رغم النبوة ورغم التنشئة العظيمة في بيت الفرعون ملك مصر، ورغم أنه يعتقد يقينًا أن دعوته مُستجابة من رب العزة، وقد كان بإمكانه أن يسأل الله أن يُطلق لسانه، أو يُلهمه الحجة والصواب والثبات، لكنه آثر أن يشدَّ أزره بأخيه، وأن يكون أخوه له وزيرًا مُستشارًا مُعينًا!
فهذا كان دعم الأخ لأخيه، وذاك كان دعم الزوجة لزوجها، وهنا نذكر دعم الصديق لصديقه؛ لَمَّا أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم وعُرِج به، تهكَّم الكفار والمشركون بالنبي الصادق الأمين، وكذبوه، وأرادوا أن يضعفوا أقوى داعم له، وهو الصِّديق أبو بكر؛ لأن الطعنة من القريب الذي تأمُنه أشدُّ جرحًا وأذًى من غيره؛ فاستبقوا وسبقوا الرسولَ في إبلاغ أبي بكر بالإسراء والمعراج، فلما أُخبر الصديقُ الخبرَ ما زاد على كلمته: إن كان قال ذلك، فقد صدق، فَرُدَّ الكيدُ إلى نحورهم!
فالدعم المعنوي في الحوادث المذكورة كان له بالغ الأثر على الإنسانية كلها وتاريخها، ولو نظرنا إلى أنفسنا البشرية، وإلى مجتمعنا الحضري أو القروي أو البدوي، لوقعت أعيننا على مشاهد الدعم وآثاره بكثرة، فمن منا لم يفقد عزيزًا، واحتاج إلى صديقه أو خليله ليواسيه، رغم أن الصديق لن يُعيد المفقود ولن يُرجع الغائب، لكن الوجود بجوار المكلوم يُذهِب الألم، ويُطبب الجرح، ويُخفف وَقْعَ الحدث، وفي الفرح تكتمل السعادة بحضور من نُحب، وتزداد الهناءة بسعادة الغير ومشاركته فرحتنا، ويطيب لحم الوليمة بإطعام الناس، كأننا نشبع بشبعهم ونفرَح بفرحهم، وفي النجاح تزهو القلوب بالمُباركات والتهنئة، وكل هذا يُعطي الدافع الأمثل لاستكمال المسيرة: مسيرة الأمل.
وتتجلى الحاجة إلى الدعم المعنوي في غُربة النفس، سواء كانت غربة في سفر، أو غربة داخل البلد، فيثقل الصدر بما حوى من هموم، وتتعب الروح لِما أُصيبت به من آلام، ويئن القلب بما حوى من أحزان، فتبحث النفس عمن تبثُّ إليه ما في الصدر من هموم، وعمن تشكو إليه سوء الآلام، وعمن يُقَدِّرُ عُمق الجراح، فيُخفف عن النفس، ويطببها ويداويها.
ولربما كانت النفس فقط تحتاج إلى من يستمع إليها دون تهكُّم، فقط من يُساندها بطيب الكلام، ويدعمها بحُسن اللفظ.
فتسكن الروح بعد عناء، وتهدأ النفس بعد شقاء، وينبض القلب بهدوء بعد أن كان ينبض بخوفٍ من شدة الجفاء.
إنها النفس البشرية، إنها النفس التي تخشى الوحدة، فصارت تُسمي الرفقة الطيبة أُنْسًا، وصارت تسمي الوحدة وَحْشَة.
إنها النفس التي صارت تسمي الصديق المقرب خليلًا، حين تخللت محبته النفس، فكأنها خالطت الدم والعظم.
إنها النفس التي جعل الله لها منها روحًا طيبة ليس لقضاء الوَطَرِ وحسب، وإنما ليسكن إليها، وجعل بينهما مودة ورحمة؛ لتحقيق السكن الحقيقي.
إنها النفس التي تنسى آلامها برؤية ابتسامةٍ من طفلٍ ما، سواء كان من أطفالها، أم من غيرها.
إن ما قالوه من مزاعم أنهم لا يحتاجون إلى غيرهم، ومحاولتهم تصدير الوحدة والوحشة في النفوس، وتغيير مفهوم الناس عنها، وتحريف نظرتهم إليها من نظرة توجُّس إلى استئناس للوحشة، لا أرى تلك المحاولات الركيكة إلا من باب أنهم يريدون نشر الحزن والكآبة بين كل الوجوه، وحتى لا يُقال عنهم إنهم مُعقدون، ولكن حريٌّ بهؤلاء أن يبحثوا عن مصدر سعادة جديد، وأن يشاركوا غيرهم ما تحوي صدورهم من آلامٍ؛ ليُعيدوا بسمتهم إلى وجوههم، وفرحتهم إلى قلوبهم، وليكونوا كشعاع النور بعد الظلام يُسعد الناس، وكشربة الماء بعد الظمأ تروي النفوس.
فاسعدوا يا إخواني، واستأنِسوا بغيركم؛ لتكون أيامكم أيام خيرٍ وبركة، فيكفيكم أن طعام الواحد حين وحْشَتِه يكفيه هو وغيره حين يأنس به، والنفس تأنس إلى من تُحب وترتاح إلى من تهوى.