جحود النعمة وعلاجه من خلال "سورة العاديات "
يقول البقاعى : لما ختم الزلزلة بالجزاء لأعمال الشر يوم الفصل، افتتح هذه ببيان ما يجر إلى تلك الأعمال من الطبع، وما ينجر إليه ذلك الطبع مما يتخيله من النفع
مناسبة السورة لما قبلها :
هناك مناسبة بين قوله فى سورة الزلزلة: {{وأَخرَجتِ الأَرضُ أَثقالها} } وقوله في هذه السورة: {{إِذا بُعثرَ ما في القبور}} فكلتا الآيتين تتحدثان عن قضية واحدة هى قضية البعث والنشور .
يقول البقاعى : لما ختم الزلزلة بالجزاء لأعمال الشر يوم الفصل، افتتح هذه ببيان ما يجر إلى تلك الأعمال من الطبع، وما ينجر إليه ذلك الطبع مما يتخيله من النفع، موبخًا من لا يستعد لذلك اليوم بالاحتراز التام من تلك الأعمال، معنفًا من أثر دنياه على أخراه، مقسمًا بما لا يكون إلا عند أهل النعم الكبار الموجبة للشكر، فمن غلب عليه الروح شكر، ومن غلب عليه الطبع- وهم الأكثر-"
قال تعالى :" {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} "
فى قوله تعالى { "وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) "} يقسم الله عزوجل بالخيل التى خرجت فى سبيل الله الضابحة والضبح هو الصوت التى يصدر منها حين تعدو
وقوله {"فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) "} الموريات من الإيراء؛ وهو إيقاد النار، قال تعالى: {﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ﴾} (الواقعة: 71). أي: التي توقدون.، والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه أما والله لأقدحن لك والمراد منها "اصطكاك نعالها بالصخر فتقدح منه النار." قول ابن عباس
وكأن المشهد تشبيه لاشتعال فتيل الحرب هكذا يقال "اشتعلت المعركة "
وقوله { {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا}} يعني إغارة الخيل صبحًا في سبيل الله " قول ابن عباس
وقوله {{فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}} النقع هو الغبارًا الذى تثيره الخيول وهو دليل على اشتداد عدوها
و قوله {( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا﴾} هى التى تتوسط صفوف الأعداء تفرق جمعهم وتحدث اضراب في صفوفهم
يقسم الله عزوجل بالخيل وما يقسم إلا بعزيز فالخيل كما وصفها رسول الله صلى الله عليه فعن جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " « الخيل معقود بنواصيها الخير » " وهو تعبير يدل على ملازمة الخير للخيل فى كل مكان تتواجد فيه ووصف حركة الخيل وما تصدره من أصوات تدل على قوتها وشدة سعيها وكل ذلك تعظيم لفضل الجهاد فى سبيل الله و الحث على الإعداد له ذلك العمل الذى يورث السعادة الأبدية فى الجنة
إذ يقول تعالى: {﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾} (الأنفال: 60).
وَقَوْلُهُ: {﴿إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾} أى أنه بنعم ربه لكفور
قال ابن عباس هو الذى يَعُدُّ الْمَصَائِبَ، وينسى نعم ربه. وصور الكنود كثيرة فالإشراك بالله كُنُود، ومعصية خالقه كُنُود، والتسخط وعدم الرضا كنود، وصرف النعم في غير ما أباح الله كنود .
وْقوله عَزَّ وجَلَّ: {﴿وَإنَّهُ عَلى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾}
يقول ابن القيم فى زاد المسير : في هاء الكناية قولان.
أحدهما: أنها ترجع إلى الله عز وجل، [تقديره]: وإن الله على كفره لشهيد.
والثاني: أنها ترجع إلى الإنسان، فتقديره: إن الإنسان شاهد على نفسه أنه كنود، روي القولان عن ابن عباس.
إن الانسان شاهد على نفسه بلسان حاله أنه عجول وكفور وظلوم وجهول كما بينت لنا آيات القرآن إذ يقول تعالى : ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ (الأنبياء: 37)، كما قال {"إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ"} سورة إبراهيم ,وقال تعالى {"كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى "} وقال تعالى: {﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا﴾} (المعارج: 19)، فإن لم يظهر على أفعاله فضحته فلتات لسانه
يعلم داخل نفسه أن الفضل من عند الله ولكنه ينكره بأفعاله هذا فى الدنيا أما فى الآخرة فإن جوارحه ستشهد عليه بما اقترفه فى حق الله وحق العباد ، قال تعالى: {﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ } (النور: 24). وقد يكون شهيد أن الله شهيد على ما فى قلب الإنسان وشهيد على عمله قال جل وعلا: {﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾} (فصلت: 53). فإن الله مطلع على أفعال عباده والمجازي عليها: {{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}} (آل عمران: 98).
فهل وعى الإنسان ذلك وعمل لهذا اليوم أم أنه استمر فى طغيانه وعناده ؟!
{﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾} الخير هو المال؛ كما قال الله تعالى { ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ﴾} (البقرة: 180). والمقصود أن الإنسان يحب المال بشدة فيكون له فتنة تجعله يبخل ويقصر فى الحقوق الواجبة عليه وتجد كثير من الجرائم التى تقع أصلها التصارع على المال
ثم تأتى اللفتة الآخيرة فى هذه السورة وهى مشهد البعث من القبور إذ يقول تعالى { أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور } وكأنها تعرض العلاج لهذه الفتنة وكبح جماح هذا الإنسان الكنود وتدعوه أن يستفيق من غفلته بتذكر الآخرة وليتذكر ذلك الحريص على الدنيا ما ينتظره فى الآخرة من أهوال وعذابات لأنه فضل شهوته على طاعة ربه
{﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُور﴾} قَالَ ابن عباس : يعنى أبرز وأظهر ما كانوا يسرون فى نفوسهم وجمعه فيخرج ما استتر فى النفوس من نيات وأعمال حينها يصبح السر علانية
إذ يقول تعالى : { ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ* فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ﴾} (الطارق: 9، 10).
لِمَ قالَ: {﴿وحُصِّلَ ما في الصُّدُورِ﴾ } ولَمْ يَقُلْ: وحُصِّلَ ما في القُلُوبِ ؟
يجيب على ذلك الإمام الفخر الرازى : لم قال : {{ وحصل ما في الصدور }} ولم يقل : وحصل ما في القلوب ؟ ( الجواب ) : لأن القلب مطية الروح وهو بالطبع محب لمعرفة الله وخدمته ، إنما المنازع في هذا الباب هو النفس ومحلها ما يقرب من الصدر ، ولذلك قال : {{ يوسوس في صدور الناس } } وقال : {{ أفمن شرح الله صدره للإسلام }} فجعل الصدر موضعا للإسلام .
وقوله { ﴿إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ﴾} التعبير بربهم ولم يقل إن الله بهم لأن الرب هو الذى يربى ويرزق ويحسن إليهم
{ ﴿بِهِمْ﴾} قدم الجار والمجرور للإختصاص ،أى أن الأمر بيد الله وحده وليس لأحد غيره و المراد أنه عالم ببواطن أمورهم وظواهرها عالم بسرهم وعلانيتهم ويجازيهم على أفعالهم يومئذ إن خيراً فخير وإن شراً فشر فإذا تيقنوا فى ذلك فلا ينبغى أن ينشغوا بجمع المال عن شكر ربهم وعبادته والعمل ليوم النشور.
وفى النهاية ....
إن السورة تبعث برسائل لكل ذى لب لعل الناس تتفكر فى حالها ومآلها فتصلح من نفسها والتى منها
أنه وصف الخيل بأوصاف من الوفاء والفداء والإيثار لسيدها فهى تفتديه بنفسها تموت ليحي وتصبر على الجوع والعطش تغير صبحا وتتوسط جمعا مقبلة غير مدبرة كل هذا خدمة لربها وهى الحيوان الأعجم بينما الإنسان كثير اللوم كثير السخط يتذكر المصائب وينسى النعم
قال تعالى: {﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾} (إبراهيم: 34), طبيعته المنع والبخل إلا من وقاه الله شح نفسه قال تبارك وتعالى: " {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} "(التغابن: 16 هل يستحق ولى نعمتك كل هذا الجحود
كما بينت فضيلة الجهاد فى سبيل الله وأنه يحرس العقيدة ويصون البلاد والحرمات فالحق يحتاج من يزود عنه ويوقف امتداد الباطل
كما أنها اشتملت على بيان المرض القلبى وهو جحود النعمة إذ يقول : " {﴿إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾} " وعلته " {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) } "و علاجه إذ يقول تعالى :" {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُور } " إن تذكر الموت والإيمان بالبعث هما التريقان والدواء الفعال ليفيق من تمكنت الدنيا من قلبه وغلبت عليه نفسه لعلنا نتفكر فى الآيات وإن كانت لبسيطة ولكنها تحمل معانى كبيرة
- التصنيف: