من غشنا فليس منا
لا شكَّ أنَّ المالَ من مقومات الحياة وضرورياتها، والمسلمُ مأمورٌ بالسعي في مناكب الأرضِ لتحصيل القوتِ الحلال بالطرق المشروعة، مع تحري الصدقِ والأمانةِ وتقوى الله عزَّ وجلَّ
معاشر المؤمنين الكرام، لا شكَّ أنَّ المالَ من مقومات الحياة وضرورياتها، والمسلمُ مأمورٌ بالسعي في مناكب الأرضِ لتحصيل القوتِ الحلال بالطرق المشروعة، مع تحري الصدقِ والأمانةِ وتقوى الله عزَّ وجلَّ، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].
بل إنَّ العملَ لكسبَ الحلالَ في نظر الإسلامِ هو نوعٌ من الجهاد المبرورِ يثابُ عليه العاملٌ أعظمَ الثوابِ، ففي الحديث الصحيحِ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجلٌ فرأَى أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من جلَدِه ونشاطِه، فقالوا يا رسولَ اللهِ، لو كان هذا في سبيلِ اللهِ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «إن كان خرجَ يسعَى على ولَدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ، وإن كان خرج يسعَى على نفسِه يعَفُّها فهو في سبيلِ اللهِ، وإن كان خرج يسعَى رياءً ومُفاخرةً فهو في سبيلِ الشَّيطانِ»..
ثم إنَّ مِن رَحمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ وفضلهِ العظيمِ عليهم أَنْ بَيَّنَ لَهُم الحَلالَ وَالحَرَامَ، وما يجوزُ لهم تعاطيه، وما لا يجوز، فقَالَ جلَّ وعلا في وَصفِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: «الحَلالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ»، فَلَيسَ مِن طَيِّبٍ فِيهِ لِلنَّاسِ نَفعٌ وَفَائِدَةٌ، إِلاَّ وَهُوَ حَلالٌ جائز، وَليس مِن خَبِيثٍ ضَرَره أكثرُ من نفعه، إِلاَّ وَهُوَ حَرَامٌ مَمنُوعٌ لا يَجُوزُ تعاطيه.. والكسبُ الحلالُ الطيبُ هو ما جاء عن طريق عملٍ مشروع، ومهنة مُباحةٍ لا شبهة فيها، فالإسلامُ قد حرَّم السرقةَ والربا والغصب والمقامرة والغشَّ والتدليس والخديعة والرشوة، والنصب والاحتيال والمتاجرة بما حرَّم الله، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ»..
والمال الحرام زادٌ ومتاعٌ خبيثٌ مُحقت بركته، وهو مانعٌ من استجابة دعوة آكله، فالله جلَّ وعلا طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، ولا يُرفعُ إليه من العملِ إلا ما كان خالصًا لوجهه تبارك وتعالى، وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر: «الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»..
والإنسانُ مهما تزينَ ظاهرهُ بجمال الصورة، وجمال المنطق، وحُسنِ العرض، فلا بدَّ من جمال الباطنِ وطهارته، ولا بدَّ من صفاء النفسِ وسلامة الصدر، ولا بدَّ من الصدق في القول والأمانة في التعامل مع الناس، ففي صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ»، وفي الحديث الحسن يقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمِنُ غِرٌّ كرِيم»؛ أي: سليمُ الصدر حسَن الباطنِ والظاهر، «والفَاجِرُ خِبٌّ لئِيم»؛ أي: ذو مكرٍ وغش وخداع، وفي الحديث الآخر: «المكرُ والخديعةُ في النَّار»..
ألا وإنَّ من أعظم ما حارَبه الشرعُ الحنيف: الغشُّ بشتى صوَرِه وأشكاله، يقول جلَّ وعلا: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]، ويقول تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَ} [الأعراف: 85]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله مرَّ على صُبْرةِ طعامٍ، فأدْخَل يدَه فيها، فنَالَتْ أصابعُه بلَلًا، فقَال: «ما هَذا يا صَاحِبَ الطِّعَام» ؟!)، قال: أصَابتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ الله، قال: «أفَلا جعلْتَهُ فوْقَ الطَّعامِ كي يرَاهُ النَّاس؟! مَنْ غشَّ فليْسَ منَّا»، رواه مسلم، وفي رواية: «مَنْ غشَّنا فلَيسَ منَّا»..
والغشُّ والخداعُ دليلٌ على ضعف الإيمان بالله، وعلى قلة مراقبته جلَّ وعلا، وهو عملٌ من أعمال المنافقين الذين يظلمون الناس ويأكلون أموالهم بالباطل.
الغِشُّ عبادَ الله طريقٌ موصِلٌ إلى سَخَط الجبَّار، وسببٌ موجبٌ لدخول النارِ، ففي الحديث الصحيح: كلُّ جَسَدٍ نبتَ مِنْ سُحْتٍ فالنارُ أولَى بِهِ..
لكل هذه النصوصِ الواضحةِ الصريحة، فقد عدَّ أهلُ العلمِ الغشَّ بسائِر أنواعِه كبيرةٌ من كبائرِ الذنوب، ويكفي قولهُ عليه الصلاة والسلام: من غشنا فليس منا، فإذا كان الغاشُّ ليسَ من المسلمين، فممن سيكونُ يا ترى..
وواقعُ الحالِ اليومَ أنَّ كثيرًا من الباعة - هداهم الله - يقعون في هذا المزلق الخطير، فيأكلونَ أموالَ الناسِ بالباطل، واللهُ جلَّ وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وحيثُ إنَّ الأصلَ في المعاملات التجاريةِ هو تبادلُ المنافعِ بلا مضرةٍ مترجحةٍ لأحد الطرفين، فإذا كانت منفعةُ أحدِ الطرفين على حسابِ مضرةِ الطرفِ الآخر، فهذا هو الحرامُ والسحتُ وأكلُ المالِ بالباطل، ومن صور الغِشِّ كتمُ عيبِ السلعة، وإظهارها بصورةٍ أجملَ وأفضلَ من حقيقتها، بحيثُ لو ظهرت على حقيقتها لتغيرت رغبةُ الشاري فيها، كما لو باع سلعةً مُقلدةً على أنها أصلية؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَه»، والحديث صححه الألباني، ونهى صلى الله عليه وسلم عن كتم العيبِ في السلعة والكذب، وأخبرَ أنَّ ذلك محقٌ للبركةِ في البيع قال صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» ؛ (متفقٌ عليه).
ومن صور الاعتداءِ المحرمِ على أموال الناس، احتكارُ السلعِ ورفعُ سعرها، وتجاوزُ ما تستحقهُ من قيمتها الحقيقة، ولو وَضعَ البائعُ نفسَهُ مكانَ المشتري لما رغبِ أن يُفعلَ به ذلك، كيف وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، والحديث متفقٌ عليه، وفي الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ»، والخاطئ هو المتجاوز عمدًا، وجزاؤه مذكورٌ في كتاب الله؛ قال تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:35- 37].
أعوذ الله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].
أقو
فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين.. وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18]..
معاشر المؤمنين الكرام، قالوا وصدقوا: «من لا شعبانَ له، فلا رمضان له»، والمعنى أنَّ من قصَّرَ في استثمار شهرِ شعبان، فيخشى عليه أن يستمرَّ تقصيرهُ في رمضان، ومن أحسنَ في استثمار شعبان فحري به أن يُحسن في رمضان بإذن الله..
شعبانُ يا عباد الله شهرٌ تكثرُ فيه الغفلة؛ فعن أُسَامَة بْن زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: «ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ»، والحديث حسنه الالباني..
ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، قال أهل العلم: وهذه لفتةٌ نبويةٌ كريمةٌ، ودليلٌ على استحباب عِمارةِ أوقاتِ غفلةِ الناس بالطاعة، ولهذا لو نظرت إلى الفضائل والدرجات التي مُنحت للذاكرين في وقت غفلة الناس، لوجدت شيئًا عجبًا، فهذا الرجلُ الذي يدخل السوقَ فيذكرُ الله، له أجرٌ عظيمٌ جدًّا؛ لأنه ذكرَ الله في مكان غفلةِ الناس، ففي الحديث الحسن قال صلى الله عليه وسلم: من دخلَ السوقَ فقال: «لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ يُحيي ويميتُ وهو حيٌّ لا يموتُ، بيدِه الخيرُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٍ، كتب اللهُ له ألفَ ألفِ حسنةٍ، ومحا عنه ألفَ ألفِ سيئةٍ ورفع له ألفَ ألفِ درجةٍ».
ولنفس المعنى قال صلى الله عليه وسلم عن الغرباء في آخر الزمان: «للعامل منهم أجرُ خمسينَ منكم؛ أي من الصحابة، ثم علَّل ذلك بقوله: «إنكم تجدون على الخير أعوانًا ولا يجدون»، وفي الحديث الصحيح: «العبادةُ في الهَرْجِ كالهجرةِ إليَّ»، وسبب ذلك أن الناسَ في وقت الفتنِ ينشغلون بها عن العبادة..
أُخَيَّ المبارك، هيِّئ نفسك لرمضان بما رغبك فيه رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم، أكثِر من الصيام في هذا الشهر، فقد كان صلى الله عليه وسلم يُكثرُ من الصيام فيه، ففي صحيح البخاري تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: كانَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ حتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ، فَما رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إلَّا رَمَضَانَ، وما رَأَيْتُهُ أكْثَرَ صِيَامًا منه في شَعْبَانَ..
ألا فاتقوا الله عباد الله، واختصوا لأنفسكم شيئًا من العبادات الخفيةِ مهما قلَّت وصغُرت، فرُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمهُ النيَّةُ، وفي محكم التنزيل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
ويا بن آدم، عِشْ ما شئت فإنك ميِّت، وأحبِب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمَل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
اللهم صلِّ محمدٍ.
_____________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة
- التصنيف: