ثلاثية النجاح
«احرصْ على ما ينفعُك، واستعنْ باللهِ، ولا تعجزْ»، بتلك الدعائمِ الثلاثِ كان بناءُ النجاحِ ونظامُه الذي لا يَخِيبُ صاحبُه
النجاحُ أسمى طموحٍ سعى إليه البشرُ حين يَرمونَ الظفرَ بما يعودُ عليهم بالخيرِ، ويحققُ لهم من مصالحَ، ويدفعُ عنهمُ الألمَ والشرورَ.
وللإسلامِ في النجاحِ قاعدةٌ ربانيةٌ راسخةٌ، أرشدَ إليها خالقُ الوجودِ والبَشَرِ، ومقدِّرُ مصالحِهم، والمُجيرُ من كلِّ سوءٍ، ومَن بيدِه أَزِمَّةُ الأمورِ ويعلمُ خفيَّها ويُذللُ عِقابَها وما تؤولُ إليه؛ فهي قاعدةٌ حتميَّةُ الصوابِ؛ لا يتسرَّبُ لصدْقِها شكٌّ، وعظيمةُ الأثرِ؛ لا يحيطُ ببَرَكتِها وصْفٌ، ذاتُ شمولٍ يَنْظِمُ في عِقْدِه الضابطِ كلَّ نجاحٍ؛ دنيويٍّ ودينيٍّ، وفرديٍّ وجماعيٍّ؛ وعامٍّ وخاصٍّ. أبانَ تلك القاعدةَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في جامعةٍ من جوامعِ كَلِمِه إذ يقولُ: «احرصْ على ما ينفعُك، واستعنْ باللهِ، ولا تعجزْ. وإنْ أصابَك شيءٌ فلا تقلْ: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكنْ قلْ: قدَّرَ اللهُ، وما شاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطانِ»؛ (رواه مسلمٌ)، بتلك الدعائمِ الثلاثِ كان بناءُ النجاحِ ونظامُه الذي لا يَخِيبُ صاحبُه؛ إنشاءً وحمايةً، ثباتًا واطرادًا: حِرْصٌ على ما ينفعُ، واستعانةٌ باللهِ تَنْبِذُ العجزَ، وإيمانٌ راسخٌ بالقدَرِ، وأيُّ أمرٍ لا تستقيمُ قناتُه وتلينُ عُسْرتُه ويَسلسُ قيادُه وقد أُشيدُ بناؤه على هذه الدعائمِ الجامعةِ بين استشعارِ الافتقارِ الذاتيِّ للمخلوقِ، وبذلِه الوسعَ المكلَّفَ به، واستمدادِه توفيقَ ربِّه وإعانتَه بحسنِ توكلِّه عليه وتفويضِ الأمرِ إليه والرضا بما يقضيه؟ فلا عَجْزَ عن المأمورِ، ولا جَزَعَ من المقدورِ، وذاك ما يجعلُ العبدَ في غاية الضرورةِ للأخذِ بتلك القاعدةِ الشرعيةِ الكليةِ علمًا وعملًا وحالًا؛ يقولُ ابنُ القيمِ مُبَيِّنًا عِظَمَ قدْرِ هذه الوصيةِ النبويةِ ومدى اتساعِ نطاقِها: هذا الحديثُ مما لا يَستغني عنه العبدُ أبدًا، بل هو أشدُّ شيءٍ إليه ضرورةً.
عبادَ اللهِ، إنَّ الأمرَ النبويَّ بالحرصِ احرصْ على ما ينفعُك، وتقييدَه بالنافعِ لَيَدُلُّ على استفراغِ الوسعِ والاجتهادِ في تحصيلِ ما يَقْدِرُ عليه العبدُ مما ينفعُه في أمرِ دينِه ودنياه التي يستعينُ بها على صيانةِ دينِه، وصيانةِ عيالِه، ومكارمِ أخلاقِه، وعدمِ التفريطِ في طلبِ ذلك، والتعاجزِ عنه وإنْ كان متَّكِلًا على القدَرِ، فيُنْسَبُ للتقصيرِ، ويُلامُ على التفريطِ شرعًا وعادةً، فذلك الحرصُ علامةُ استواءِ العقلِ، وهو من الكَيْسِ الذي هو من كنوزِ الإسعادِ النفسيِّ حين يعودُ على النفسِ بالرضا والطمأنينةِ والنشاطِ والإيجابيةِ في تحقيقِ المرادِ؛ ولذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يؤكِّدُ عليه ويُغْرِي به؛ إذ يقولُ: «فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ»؛ (رواه البخاريُّ).
يقولُ ابنُ القيمِ: سعادةُ الإنسانِ في حرصِه على ما ينفعُه في معاشِه ومَعادِه، وكلما ازدادَ نفعُ الأمرِ ازدادتْ أهميةُ الحرصِ عليه، وتقديمِه على غيرِه حالَ التعارضِ وتعذُّرِ الجمعِ؛ فنفْعُ الدِّينِ مقدَّمٌ على نفعِ الدنيا، ونفْعُ النَّفْسِ مقدَّمٌ على نفعِ الغَيرِ، والنفعُ الجَمْعيُّ مقدَّمٌ على النفعِ الفرديِّ.
أيها المسلمون، مع إنهاءِ الاجتهادِ نهايتَه، وإبلاغِ الحرصِ غايتَه، فلا بدَّ منِ استشعارِ الضَّعفِ البشريِّ وأنَّه لا غنى عن الاستعانةِ باللهِ، والتوكلِ عليه، والالتجاءِ في كلِّ الأمورِ إليه؛ إذ أَزِمَّةُ الأمورِ بيدِه، والكونُ يجري بأمْرِه، ومَرَدُّ العواقبِ إليه: واستعنْ باللهِ؛ فلا مُعِينَ إلا هو، كَبُرَ الأمرُ أو صَغُرَ، عمَّ أو خصَّ، ولَعَمْرُ اللهِ إنَّ تلك الاستعانةَ لهيَ أعظمُ أسبابِ التوفيق، وتحمّلِ المشاقِّ وتَيَسُّرِها، وسرعةِ الوصولِ إلى الهدفِ الأسمى المنشودِ، وهي مصدرُ قوةٍ ربانيةٍ تَضُخُّ في قلبِ العبدِ عزمةَ إقدامٍ لا تَنْثَنِي ما دامَ في العمرِ بقيةٌ وللقدرةِ مجالٌ، وتملؤه فأْلًا وتوقُّعًا في الخيرِ مُطْمِعًَا. قال بعضُ السلفِ: مَنْ أحبَّ أنْ يكونَ أقوى الناسِ، فليتوكلْ على اللهِ.
قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: وأما أرجحُ المكاسبِ: فالتوكلُ على اللهِ، والثقةُ بكفايتِه، وحسنُ الظنِّ به، وقال ابنُ القيِّمِ: فإنْ قلتَ: فما معنى التوكلِ والاستعانةِ؟ قلتُ: هو حالٌ للقلبِ يَنشأُ عن معرفتِه باللهِ، والإيمانِ بتفرُّدِه بالخلْقِ والتدبيرِ، والضُّرِ والنفعِ، والعطاءِ والمنعِ، وأنَّه ما شاءَ كان وإن لم يشأِ الناسُ، وما لم يشأْ لم يكنْ وإنْ شاءه الناسُ؛ فيوجِبُ له هذا اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وطمأنينةً به، وثقةً به، ويقينًا بكفايتِه لما توكَّلَ عليه فيه، وأنه مليٌّ به، ولا يكونُ إلا بمشيئتِه، شاءَه الناسُ أم أَبَوْهُ، فتشبِهُ حالتُه حالةَ الطفلِ مع أبويه فيما ينوبُه من رغبةٍ ورهبةٍ هما مَلِيَّانِ بهما، فانظرْ في تجرُّدِ قلبِه عن الالتفاتِ إلى غيرِ أبويه، وحبْسِ همِّه على إنزالِ ما ينوبُه بهما، فهذه حالُ المتوكِّلِ، ومن كان هكذا مع اللهِ فاللهُ كافيه ولا بدَّ، قال اللهُ تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه، والحَسْبُ الكافي.
عبادَ اللهِ، كمالُ العبدِ إنما يكونُ باستتمامِ الحرصِ على ما ينفعُ، والإقدامِ على المُضيِّ فيه، والاستعانةِ باللهِ في ذلك، وخَلَلُ ذلك الكمالِ بإخلالِه بهما أو أحدِهما، وذلك هو العجزُ الذي نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنه إذ يقولُ: «ولا تعجزْ»، وجاء في روايةِ النسائيِّ: «ولا تضجرْ»؛ نهيًا باتًا عامًَّا يعمُّ في أفرادِه كلَّ صورِ العجزِ التي منها تركُ الاستعانةِ باللهِ، والكسلُ، واسترهابُ الإقدامِ، والتسويفُ، وقعودُ الهمةِ، والمللُ من المواصلةِ، واستطالةُ الزَّمَنِ؛ قال الأحنفُ بنُ قيسٍ: إياك والكسلَ والضَّجَرَ، فإنِّك إذا كسلْتَ لم تؤدِّ حقًّا، وإذا ضجِرْتَ لم تصبرْ على حقٍّ.
وأوصى أبجرُ بنُ جابرٍ العِجْليُّ ابنَه قائلًا: يا بُنيَّ، إيَّاك والسَّآمةَ في طلبِ الأمورِ، فتقذِفَك الرجالُ في أعقابِها، قال الفضلُ بنُ سعيدٍ: كان رجلٌ يطلبُ العلمَ فلا يقدرُ عليه، فعزمَ على تركِه، فمرَّ بماءٍ يَنْحَدِر من رأسِ جبلٍ على صخرةٍ قد أثَّرَ فيها، فقالَ: الماءُ على لطافتِه قد أثَّرَ في صخرةٍ على كثافتِها، واللهِ لأطلبنَّ، فطلبَ فأدركَ.
اطلبْ ولا تضجرَ من مَطْلبٍ ** فآفةُ الطالبِ أنْ يضجـــــــرا
أما ترى الماءَ بتَكْــــــــــرارِه ** في الصخرةِ الصمّاءِ قد أثَّرا
أيها المؤمنون، مع بذلِ الجَهدِ في الأسبابِ والاستعانةِ باللهِ تعالى، فإنَّ العبدَ قد لا يصلُ إلى بُغْيتِه؛ لحكمةٍ يريدُها اللهُ، فما عليه حينئذٍ إلا أنْ يرضى بما قدَّرَ اللهُ، كما أرشدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في وصيتِه؛ إذ يقولُ: «وإنْ أصابَك شيءٌ» (وفي روايةٍ: «فإنْ غلبَك أمرٌ»، وفي أخرى: «فإنْ فاتَك»؛ «فلا تقلْ: لو أنِّي فعلتُ كان كذا وكذا، ولكنْ قل: قدَّرَ اللهُ، وما شاءَ فعلَ، فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشيطانِ».
قال أحدُ الحكماءِ: الأمرُ أمران: أمرٌ فيه حيلةٌ فلا تعجزْ عنه، وأمرٌ لا حيلةَ فيه فلا تجزعْ منه؛ إذ التحسُّرُ واليأسُ لا يُجْديانِ، بل ذلك يفتحُ للشيطانِ أبوابًا من الشرِّ على قلبِ العبدِ، يُجْلِبُ من خلالِها على إحزانِه وإذاقتِه أذى الهمِّ والغمِّ، وحملِه على سوءِ الأدبِ مع ربِّه حين سَخِطَ على قدَرِه المُبْرَمِ الذي لا رادَّ له، فباءَ بالحسرتين: تركِ الإيمانِ بالقدَرِ، وعدمِ الظفرِ بالمطلوبِ، بينما الحلُّ الناجعُ في ذلك هو الاستسلامُ لقضاءِ اللهِ بلسانِ الحالِ والمقالِ بأنْ يَذَلَّ لسانُ العبدِ باللَّهَجِ بردِّ الأمرِ إلى مَن بيدِه مقاليدُه سبحانَه مُعْتقِدًا ذلك بقلبِه، محسنًا الظنَّ بربِّه، قائلًا: قدَّرَ اللهُ وما شاءَ فَعَلَ، فما منَعَ إلا ليُعطيَ، وما ضيَّقَ إلا ليوسِّعَ، وما أذلَّ إلا ليُعِزَّ، وما أمرضَ إلا ليَشفيَ، ولن تنكشفُ كنوزُ هذه الحِكَمِ إلا لمن رآها بمنظارِ الاستسلامِ واليقينِ.
فَلَمْ يَمْنَعِ الرَّبُّ عَبْدَهُ مَا الْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، بُخْلًا مِنْهُ، وَلَا نَقْصًا مِنْ خَزَائِنِهِ، وَلَا اسْتِئْثَارًا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ حَقٌّ لِلْعَبْدِ؛ بَلْ مَنَعَهُ لِيَرُدَّهُ إِلَيْهِ، وَلِيُعِزَّهُ بِالتَّذَلُّلِ لَهُ، وَلِيُغْنِيَهُ بِالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ، وَلِيَجْبُرَهُ بِالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِيُذِيقَهُ بِمَرَارَةِ الْمَنْعِ حَلَاوَةَ الْخُضُوعِ لَهُ، وَلَذَّةَ الْفَقْرِ إِلَيْهِ، وَلِيُلْبِسَهُ خِلْعَةَ الْعُبُودِيَّةِ، وَيُوَلِّيهِ بِعَزْلِهِ أَشْرَفَ الْوِلَايَاتِ، وَلِيُشْهِدَهُ حِكْمَتَهُ فِي قُدْرَتِهِ، وَرَحْمَتَهُ فِي عِزَّتِهِ، وَبِرَّهُ وَلُطْفَهُ فِي قَهْرِهِ، وَأَنَّ مَنْعَهُ عَطَاءٌ، وَعَزْلَهُ تَوْلِيَةٌ، وَعُقُوبَتَهُ تَأْدِيبٌ، وَامْتِحَانَهُ مَحَبَّةٌ وَعَطِيَّةٌ، وَتَسْلِيطَ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِ سَائِقٌ يَسُوقُهُ بِهِ إِلَيْهِ.
وَرُبَّمَا كَانَ مَكْرُوْهُ الأُمُوْرِ إِلَـــى ** مَحْبُوْبِهَا سَبَبٌ مَا مِثْلُهُ سَبَـــبُ
هَذِي مَخَايِلُ بَرْقٍ خَلْفَهُ مَطَــرٌ ** جودٌ وَوَرْيُ زِنَادٍ خَلْفَهُ لَهَـــــــبُ
وَأَزْرَقُ الفَجْرِ يَأتِي قَبْلَ أَبْيَضِهِ ** وَأوَّلُ الغَيْثِ قَطْرٌ ثُمَّ يَنْسَكِـبُ
وبعدُ، فدونكم - معشرَ المؤمنين - وصيةَ النجاحِ النبويةَ؛ تشبَّثُوا بها في شأنِكم كلِّه؛ تظفروا بإحدى حُسنيَيْها؛ ظَفَرٍ بالبُغيةِ، أو تبديلٍ لما هو خيرٌ مع وفورِ إيمانٍ وراحةِ طمأنينةٍ وطيبِ حياةٍ.
- التصنيف: