تفسير قوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم...}
سليمان بن إبراهيم اللاحم
تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾
- التصنيفات: التفسير - الأيمان والنذور -
قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 224، 225].
قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
قوله: {وَلَا تَجْعَلُوا} أي: ولا تصَّيروا، من جعل بمعنى صير، التي تنصب مفعولين؛ أولهما- هنا- لفظ الجلالة {اللَّهَ} ، والثاني {عُرْضَةً}.
{لِأَيْمَانِكُمْ} اللام للتعدية، وقيل للتعليل، والأيمان: جمع يمين، وهو الحلف والقسم، وهو تأكيد الشيء المحلوف عليه، بالحلف بالله- عز وجل- أو اسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، بقصد إقناع المحلوف له، وإشهاد الحالف الله على صدقه، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]، وحروف القسم ثلاثة: الواو، والباء، والتاء، يقال: والله، وبالله، وتالله.
وسمي الحلف يمينًا؛ لأن من عادة العرب إذا تحالفوا أن يمسك أحدهما باليد اليمنى من الآخر، ومنه قولهم: أعطى يمينه، قال كعب بن زهير:
حتى وضعت يميني لا أنازعه ** في كف ذي يسرات قيله القيل[1]
{أَنْ تَبَرُّوا} «أن» والفعل بعدها في تأويل مصدر، في محل جر بدل من «أيمان» أو عطف بيان، أو في محل جر بحرف جر محذوف، أي: في أن تبروا، وقيل في محل نصب على المفعول لأجله، أي: إرادة أن تبروا.
والمعنى: لا تكثروا الحلف بالله، ولا تحلفوا به على ترك البر والتقوى، والإصلاح بين الناس، وإذا حلفتم على ترك ذلك، فلا تجعلوا حلفكم مانعًا من فعل ذلك، بل كَفِّروا عن أيمانكم، وافعلوا ما حلفتم على تركه، من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، وما هو خير، كما قال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِي} [النور: 22].
فلا يجوز الحلف على ترك البر والتقوى والإصلاح بين الناس، وإذا حلف على ترك ذلك، فلا يجوز الاستمرار على ترك ذلك احتجاجًا بالحلف، بل يجب الحنث في اليمين والتكفير عنها؛ لأن الاستمرار على اليمين المانعة من البر والتقوى والإصلاح بين الناس من الاستمرار على المعصية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «والله لأن يَلِجَّ أحدكم بيمينه في أهله آثَمُ له عند الله من أن يُعطي كفارته، التي افترض الله عليه» [2].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإني، والله- إن شاء الله- لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها» [3].
وعن عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفِّر عن يمينك وائت الذي هو خير» [4].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأتها وليكفِّر عن يمينه» [5].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، وفي قطيعة الرحم، وفيما لا تملك» [6].
ومعنى قوله: {أَنْ تَبَرُّوا} أي: أن تعملوا الخير؛ لأن «البر»: كلمة جامعة لكل خصال الخير الظاهرة والباطنة، من فعل الواجبات والمستحبات، من بر الوالدين وصلة الأرحام وغير ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: «البر: ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب» [7]، وقال صلى الله عليه وسلم: «البر: حسن الخلق» [8].
{وَتَتَّقُوا} التقوى: أن يجعل الإنسان بينه وبين عذاب الله وقاية، بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
والمراد بها هنا اجتناب النواهي، لذكر «البر» قبلها، وهو فعل الأوامر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «البر: ما أمرت به، والتقوى: ما نهيت عنه»[9].
{وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} أي: وتوفقوا بين المتنازعين من الناس، بالعمل على إزالة الفساد، والقضاء على أسباب الفرقة، والاختلاف بينهم، وفض خصوماتهم، وإنهائِها، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين؛ لعموم قوله: {النَّاسِ} .
والإصلاح بين الناس من أعمال البر، وخص بالذكر- والله أعلم- لفضله، وعظيم أثره؛ لأنه من النفع المتعدي، ولأن فساد ذات البين من أعظم وأخطر ما يقع بين الناس. قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] وقال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» ؟ قالوا: بلى، قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» [10].
وفي رواية: «لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» [11].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة» [12].
ولهذا قال عز وجل: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
وجعل عز وجل للغارمين نصيبًا من الزكاة، ومنهم الذين يتحملون غرامات للإصلاح بين الناس.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ} أي: والله ذو السمع الذي وسع جميع الأصوات، كما قالت عائشة رضي الله عنها: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات»[13].
ومن ذلك سماعه- عز وجل- لأيمان الحالفين.
{عَلِيمٌ} أي: ذو علم تام وسع كل شيء، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98]].
ومن ذلك علمه- عز وجل- بمقاصد ونوايا الحالفين، وفي هذا وعد لمن أطاع الله واجتنب نهيه، ووعيد لمن خالف ذلك.
قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِلافِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.
لما نهى عن جعل الحلف مانعًا من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، أتبع ذلك ببيان عدم المؤاخذة بلغو اليمين.
والمؤاخذة: المعاقبة، أي: لا يعاقبكم الله بما صدر منكم من لغو الأيمان، أي: لا يلزمكم بها، ولا بكفارتها.
ولغو اليمين: ما يجري على اللسان من غير قصد عقد اليمين ولا توكيدها، كقول الرجل: لا والله، وبلى والله، ونحو ذلك- كما قالت عائشة رضي الله عنها: «أنزلت هذه الآية: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} في قول الرجل: لا والله، وبلى والله»[14].
ورُوي عنها أيضًا أنها كانت تقول: «هو الشيء يحلف عليه أحدكم، لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف عليه»[15].
{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي: ولكن يعاقبكم بالذي كسبته قلوبكم، أو بكسب قلوبكم، أي: بالذي عقدتموه وعزمتم عليه وقصدتموه من الأيمان والأعمال. كأن يحلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب وهي اليمين الغموس، وهذا متوعد عليه بالنار.
وكأن يحلف على شيء أن يفعله، أو لا يفعله، ثم يحنث في يمينه، فعليه الكفارة، قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].
فعقد الأيمان هو كسب القلب، الذي عليه مدار صلاح الأعمال وفسادها، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» [16].
{وَاللهُ غَفُورٌ} أي: والله ذو مغفرة واسعة لذنوب عباده، كما قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32].
والمغفرة: ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن العقوبة عليه.
{حَلِيمٌ} أي: ذو حلم واسع، لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، بل يمهله لعله يتوب، ولا يهمله.
قال ابن القيم[17]:
وهو الحليم فلا يعاجل عبده ** بعقوبة ليتوب من عصيان
[1] انظر: «ديوانه» (ص114).
[2] أخرجه البخاري في الأيمان والنذور (6625)، ومسلم في الأيمان (1655).
[3] أخرجه البخاري في فرض الخمس (2133)، ومسلم في الأيمان (1649)، وابن ماجه في الكفارات (2107).
[4] أخرجه البخاري في الأيمان والنذور (6622)، ومسلم في الأيمان (1652)، وأبو داود في الخراج (2929)، والنسائي في الأيمان والنذور (3783)، والترمذي في النذور والأيمان (1529).
[5] أخرجه مسلم في الأيمان (1650)، والترمذي في النذور والأيمان (1530).
[6] أخرجه أبو داود في الأيمان والنذور (3272).
[7] أخرجه أحمد (4/ 194)، من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.
[8] أخرجه مسلم في البر والصلة (2553)، والترمذي في الزهد (2389)، من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه.
[9] أخرجه الطبري في «جامع البيان» (8/ 53).
[10] أخرجه أبو داود في الأدب (4919)، والترمذي في صفة القيامة (2509)، وقال: «حديث صحيح».
[11] ذكرها الترمذي.
[12] أخرجه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2508)- وقال: «حديث حسن صحيح غريب».
[13] أخرجه البخاري- معلقًا- في التوحيد- باب ﴿ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ «فتح الباري» (13/ 372)، وأخرجه موصولًا النسائي في الطلاق (3460)، وابن ماجه في المقدمة (188)، وأحمد (6/ 46).
[14] أخرجه البخاري في التفسير (4613)، وأبو داود في الأيمان والنذور (3254).
[15] أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 408- 409).
[16] أخرجه البخاري في الأيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، وابن ماجه في الفتن (3984)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[17] في «النونية» ص(148).