كيف تضمحل الإمبراطوريات
منذ 2011-09-12
دقائق قليلة وجاءني كبير المخرجين يومها جاسم المطوع ليقول, ثمة في الصور طائرة تخترق البرج الأول وأخرى تتبعها تخترق البرج الثاني. ..
قبل عشر سنين بالتمام والكمال في غرفة أخبار الجزيرة القديمة الصغيرة "الدافئة", نظرت فرأيت على شاشة "سي إن إن" الدخان يتصاعد أسود من أعلى أحد أبراج مركز التجاري العالمي, فسألت الزملاء الصحفيين عما يحدث, فقالوا لا شيء حتى الآن على وكالات الأنباء ومع ذلك طلبت, وأنا يومها مشرف التحرير المناوب, من منتهى الرمحي وكانت يومها المذيعة الموجودة في الغرفة, أن تهرول إلى ذلك الأستوديو الصغير "صاحب الأمجاد" لننقل ما تنقله "سي إن إن" وقد كان بيننا اتفاق يتيح لنا أن نأخذ صورها وبثها.
دقائق قليلة وجاءني كبير المخرجين يومها جاسم المطوع ليقول, ثمة في الصور طائرة تخترق البرج الأول وأخرى تتبعها تخترق البرج الثاني.
وتتالت المشاهد وازدادت قتاما إلى أن تهاوى البرجان, وتهاوى معهما عالم وانداحت الدنيا في دوامة ما زالت تبتلع, مثل ما يفعل الثقب الأسود بمادة الكون, الإمبراطوريات والدول والشعوب والأفراد بالملايين.
أُخِذَ جورج دبليو بوش ودهاقنة, بل قل أشرار اليمين المحافظ في العاصمة واشنطن على حين غرة. فلم تكن الإمبراطورية المتلفعة بمحيطيْن هائلين تتوقع حتى في أكثر كوابيسها جموحا أن تُضرَب هكذا, وهي صاحبة الجبروت التي حسمت حروب الدنيا الكونية ونزلت على القمر وتباهت مثل قوم عاد بقوتها وبطشها.
نُقِل بوش وطاقمه إلى مكان سري, ثم عاد ليعلن الحرب على الإرهاب وليجعل من الإسلام والمسلمين والعرب كبش فداء يريق دمه على مذبح كرامته المهدورة.
نعم, لقد قتل آلاف الأبرياء في مركز التجارة العالمي ومن ركاب الطائرات المخطوفة, في جريمة بشعة أرهبت الناس وأدمت القلوب وفجعت النفوس حتى لا يقولنّ موتور, إذ يقرأ هذا المقال, إنه تشف أو إحياء إيجابي لذكرى كارثة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
أذكر يومها ونحن نغطي التطورات على مدار الساعة, وقد تحولت الجزيرة وغرفة أخبارها الصغيرة إلى قبلة عالمية يؤمها الصحفيون من كل أنحاء الدنيا, أذكر أن كل وسائل الإعلام الغربية والعالمية انبرت تدين الجريمة, وتتغنى بأمجاد أميركا وحُلُمِها, والويل الويل لمن يخالف أو يحاول أن يتساءل عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى تلك الهجمات, مثل صحيفة "الغارديان البريطانية" التي أتاحت الفرصة وحيدة للكتاب العرب والمسلمين ذوي الرأي المختلف كي يخوضوا في أسباب كراهية أميركا في عالمهم, ومثل الجزيرة التي ما جبنت, ونقلت للعالم ما يقوله بن لادن وهو يعلن مسؤوليته عما حدث ويتوعد بالمزيد, وقد فعل.
وانبرى كل المنافقين ومن في قلوبهم مرض يسارعون فيهم, مؤكدين ولاءهم لأميركا وهم يرتجفون أمام زبد جورج دبليو بوش وسَوْرة غضبه. وهؤلاء هم من فتحوا زنازينهم ومعتقلاتهم ومطاراتهم أمام أميركا, لتطارد كل المشتبه فيهم, وتنقلهم إلى سجونها وسجون المتطوعين المرتعدين منها. وكثير من هؤلاء عرب لا تجد لولائهم للإمبراطورية حدودا, وإن كانوا من دعاة القومية واليسار في بعض الأحيان.
أُخمدت ألسنة اللهب واختفى البرجان من وجه الأرض, وتحول مكانهما اليوم إلى تذكار يؤمه الأميركيون وغيرهم ليتذكروا, إن كان لهم قلوب أو ألقوا السمع وهم شهود.
لكن, هل خبا الألم الذي صبه بوش وزبانيته وما زالوا يفعلون, رغم تغير الألوان والوجوه في البيت الأبيض, هل خبا سعيره المتقد كالحميم في نفوس ملايين العراقيين والأفغان والباكستانيين؟
كثيرا ما كان كبار الصحفيين الأميركيين وأعضاء في الكونغرس يزورون الجزيرة, ويسألوننا لماذا نذيع أشرطة بن لادن, ولماذا تأخذ الجزيرة خطا مغايرا لما مضت عليه أغلب صحف العالم ووسائل إعلامه, التي رفعت رايات مكافحة الإرهاب واستبدلت قوانين الوطنية الأميركية بقواعد وأخلاقيات مهنة الصحافة, التي نقسم على احترامها من توازن وتعدد في الآراء ودقة في الطرح والمعلومات.
قلة منهم حاولوا أن يبحثوا في دهاليز سياسات إداراتهم المتعاقبة, عن أجوبة لما يستشعرونه من بغض لسياسات أميركا لدى شعوب كثيرة. وحين كنت أقول لأحدهم حين يسألني عن أسباب كره أميركا, رغم اعتراضي على وصف مشاعر المسلمين والعرب تجاه الأميركيين بالكره, عليك أن تبحث عن الإجابة بنفسك بمراجعة سياسات وتصرفات الإمبراطورية, كان لا يحير في غالب الأحيان جوابا.
لقد انقضت سنوات عشر منذ واقعة الحادي عشر من سبتمبر الرهيبة, ومنذ ما تلاها, وكان أشد رهبة وقسوة وأكثر سفكا للدماء, وما أظن أن أغلب أولئك الذين طرحوا السؤال السالف الذكر حاولوا أن يجدوا له إجابة. وإن وجدوها يتعامَوْن عنها وينكصون على أعقابهم بين المحيطيْن وفي أرض الأحلام الآخذة في التبدد.
لو كنت أميركيا, لراجعت سياسة بلادي منذ أن أنشأ الغرب إسرائيل في المنطقة العربية, مستعينا بتبعية وبتخاذل حكامنا إذ ربما وجدت الجواب على ذلك السؤال, فأن تكون مع إسرائيل "معتدى عليها" مختلف عن أن تكون معها وهي معتدية.
وحين كنت أقول لزوارنا من الصحفيين الأميركيين وأعضاء الكونغرس وبعض المسؤولين الآخرين, إن على أميركا, إن أرادت معرفة الجواب, أن تنظر إلى سياستها تجاه إسرائيل والعرب كان بعضهم يقول إن القضية الفلسطينية لم تعد, خاصة بعد توقيع اتفاقيات كامب ديفد, هي الهمَّ الأساس للشعوب العربية. إنه الوهم الذي زرعته وسائل الإعلام المتصهينة في نفوسهم, مع أن قلوب بعضهم تستيقن أن الانحياز لإسرائيل هو مُشَكّلُ الوعي العربي ليس بموقف الولايات المتحدة فحسب, بل بمواقف دول الغرب مجتمعة. وإلى أن يدرك الأميركيون والغرب عموما هذه الحقيقة, فإن الإنسان العربي لن يثق بأميركا ولن يغير شكوكه تجاهها.
لقد كان بعض زوارنا يقولون, ردا على ذلك إن ما يقوله الحكام العرب للأميركيين في اجتماعاتهم وراء الأبواب المغلقة مختلف. إذ يؤكد هؤلاء الحكام للأميركيين أن الشعوب العربية تثق بالولايات المتحدة وتتطلع إليها, وأن القضية الفلسطينية شأن فلسطيني ولم تعد شأنا قوميا عربيا. وإني لأصدق أولئك الأميركيين, فلا شيء مستهجن عن حكام مُنْبَتّين عن شعوبهم, متمسكين بكراسيهم ولو في بحر من دماء الأبرياء, ودون من يشك في ذلك صنعاء ودمشق وطرابلس الغرب وقبلها تونس ومصر.
لو كنت أميركيا لسألت جورج بوش الابن: هل عاد وضع الإمبراطورية كما كان قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من حرب على الإرهاب؟
أين أنت يا سيدي الرئيس؟ تقيم في مزرعة أسرتك في تكساس وتنام قرير العين!! دعني أسألك بسذاجة, كما قد يتهمني المؤمنون بضرورات القسوة والبطش في عالم السياسة, كيف تنام؟ بل كيف ينام أقطاب اليمين المحافظ الذين قادوك في حربك ولم تَقُدْهم, إذ كان واضحا أن قدراتك الثقافية واللغوية هي الأدنى بين كل من حكموا أميركا قبلك؟
إلامَ آلت حربك على الإرهاب؟ دعنا نبدأ من داخل أميركا نفسها في محاولة للإجابة. أزمة مالية خانقة واقتصاد يغالب الركود, ولولا الديون التي تحرك نبض الحياة في قلب الخزينة لتهاوى في غياهب ركود أسوأ من كساد 1929, يوم أن كانت أميركا بحق أرض الحلم المتجدد والمستقبل الواعد. مع أنك يا سيدي الرئيس ورثت من بيل كلينتون خزينة متخمة بفائض مقداره خمسة تريليونات دولار, تكدست إثر انتهاء الحرب الباردة وأفول الاتحاد السوفيتي!
هل كنت يا سيدي الرئيس تتوقع, حتى في الحلم, أن ترى يوما أميركيين ينصبون في الحدائق العامة خياما مثل خيام الفلسطينيين؟ أو لا يجدون من ينقذ منازلهم من براثن صناديق التحوط والبنوك؟ وهل كنت تتوقع أن ينقسم الأميركيون بمثل ما انقسموا حيال انتخابك لفترة ثانية, وأن يصل الأمر إلى حد الاتهام بالتزوير وإعادة فرز الأصوات كما لو كانت أميركا من دول العالم الثالث؟
أما في العالم الذي جعلته أميركا عالمها في القرن العشرين وآلت على نفسها أن يظل كذلك في القرن الحادي والعشرين فانظر من حولك. ورطة في العراق واستعداد للانسحاب بعد قرابة خمسة آلاف قتيل وثلاثين ألف جريح, ولولا أرباب العشائر وصحواتهم السيئة الصيت والسمعة في مناطق العراق المقاوِمة, لكنت أنت من أمر بانسحاب القوات الأميركية وليس باراك أوباما المثقل كاهله بتركتك.
أما في أفغانستان التي اندفعت إليها ظانّا أنها ستكون نزهة وليلة أنس على أنغام القصف, فها هي إمبراطوريتك تواجه ما واجهته سابقاتها من الإمبراطوريات من هزيمة على أرض الأفغان. وإن كنت في شك فدونك الإسكندر العظيم وأباطرة فارس والإنجليز والسوفيات وكأن لأفغانستان ضحية من الإمبراطوريات في كل قرن.
وإسرائيل التي برأتها من كل ذنب أو اعتداء فانظر إليها يتلازم ضعفها مع ضعف إمبراطوريتك, وما حرب لبنان وغزة منك ببعيد.
أما أولئك الحكام العرب الذين كنت أنت وكل رؤساء أميركا تملون عليهم ما تريدون, فانظر إليهم يكادون لا يجدون في أطراف الدنيا ملاجئ أو مغارات أو أسِرة يلوذون بها وشعوبهم تصدر عليهم أحكامها العادلة.
قبل عشر سنين, خرج علينا كتاب وصحفيو المال لينعقوا بالويل والثبور لكل من لا يطأطئ رأسه أمام جبروت بوش وآلته العسكرية الهائلة, ووقف العالم جامدا لا يقوى على شيء, اللهم إلا مقاتلو طالبان المتهمون بالتخلف, وقفوا يقاتلون بما استطاعوا إعداده, أو ما تبقى لديهم إثر احتلال بلادهم وها هم يقلبون السحر على الساحر.
ترى ماذا كان سيحدث لو أن كل العراقيين اختاروا المقاومة في الأساس ولو أن من اختاروها منهم لم يُطعنوا في ظهورهم من أهلهم؟
قبل عشر سنين, ومنذ خمسة عشر عاما, ظلت الجزيرة وحيدة تنقل أخبار وصور عمليات المقاومة, وتدافع عن الصحافة المتوازنة, واختار كثير من العرب الذين يخشون أن تصيبهم دائرة من الغرب اختاروا أن يسارعوا فيه, بل إن بعضهم حرض على قصفنا عله يفوز بالرضا.
وظهرت قنوات ومؤسسات لا تستحي أن تكون بوقا للغرب وأميركا بالذات, وتقف في الخط المناهض للأمة ومصالحها.
كان زوارنا من الغربيين والأميركان لا يريدوننا أن نستعمل كلمة شهيد في وصف من يسقطون برصاص الاحتلال الإسرائيلي, فحذا حذوهم المتماهون معهم من القنوات الناطقة بالعربية وأدانونا في منتدياتهم لأننا نستعمل الكلمة.
هل كان ديك تشيني ودونالد رمسفيلد وبقية زبانية اليمين الأميركي من المحافظين الجدد, وأتباعهم من العرب, يظنون أن العالم بعد عشر سنوات من ارتفاع دخان برجي التجارة واندلاع الحرب على الإرهاب, سيكون مختلفا عما ألفوه أو خططوا له؟
خططوا لشرق أوسط جديد يتماهى معهم وتصفى فيه القضية الفلسطينية, فوصل قطار السلام المزعوم إلى طريق مسدود رغم حماسة ركابه من المفاوضين الفلسطينيين.
خططوا لعالم عربي يواصل طريق الخنوع والطاعة, فها هو يثور.
خططوا لقرن آخر من الهيمنة الأميركية, فها هو يتفلت من بين أيديهم إذ تنتقل مراكز القوة من الغرب إلى الشرق.
من حقهم أن يخططوا, ولكن بعد عشر سنوات من كارثة سبتمبر, من حقنا نحن الشعب العربي أن نطالب حكامنا وكلهم كانوا في الحكم يوم وقعت الكارثة بأن يفسحوا المجال لغيرهم فنساؤنا لم يصبحن عواقر يوم ولدتكم أمهاتكم يا قوم.
أحمد الشيخ
موقع المختار الإسلامي
- التصنيف: