ما وراء الإبراهيمية
ما حقيقة المشروع الذي يُطلَق عليه الديانة الإبراهيمية؟ وما تداعياته السياسية والفكرية والاستراتيجية على المنطقة العربية؟ وما موقعه في استراتيجيات الدول سواء التي صاغته ودعت إليه، أو الدول المستقبلة لهذا المشروع والمقصودة بهذا المشروع؟
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة - أحداث عالمية وقضايا سياسية -
لا ينفكّ التحالف الصهيوني الأمريكي، من أجل إحكام سيطرته على المنطقة العربية؛ أن يطرح كل فترة زمنية مشروعًا يحاول به تعزيز تلك الهيمنة وتوسيع نفوذه.
ففي حقبة التسعينيات تمَّ طرح مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، وهو مشروع خلاصته جعل الكيان الصهيوني مركزًا وبؤرةً في المنطقة، يقودها ويهيمن عليها سياسيًّا واقتصاديًّا وتكنولوجيًّا وعسكريًّا.
وبدأ الكيان الصهيوني تنفيذ هذا المشروع بالفعل في تلك الحقبة، فكانت بداياته اتفاقيات أوسلو؛ حيث تم الإتيان بالسلطة الوطنية الفلسطينية لتكون سلطة حكم ذاتي للفلسطينيين بغزة وجزء من الضفة الغربية، في نفس الوقت الذي بدأ الكيان الصهيوني خطوات التطبيع مع الدول العربية، باعتبار أن التحالف الصهيوني الأمريكي قد وضع حدًّا للصراع العربي الإسرائيلي، وأن هذا الصراع على وشك الانتهاء، وأن الكيان الصهيوني سيندمج اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا مع الأقطار العربية.
ولكن مع اشتداد الصراع بين الكيان والفلسطينيين؛ خاصةً حين ظهرت نوايا الصهاينة في أنهم لا يريدون دولة للفلسطينيين في الضفة الغربية، بل يريدون كيانًا منزوع السلاح يكون سياجًا يحمي الصهاينة وتمدّدهم في فلسطين، كما بدا أن القوى الحية الفلسطينية لن تقبل بالتنازل عن الأقصى والقدس، فاشتد عود المقاومة الفلسطينية الإسلامية، وفرضت نفسها على ساحة الصراع، ونتيجة لذلك سقط مشروع الشرق الأوسط الكبير، وأضحى حكاية من الماضي.
ثم كان مشروع ما أُطلق عليه «صفقة القرن»، وهو مقترح إسرائيلي مُغلّف بغلاف أمريكي صاغه اليمين الإسرائيلي المتشدّد بقيادة نتنياهو، وتولى الإعلان عنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ويهدف بشكل رئيسي إلى توطين الفلسطينيين في وطن بديل، خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإنهاء حق اللجوء للاجئين الفلسطينيين في خارج فلسطين، وكانت صحيفة واشنطن بوست قد كشفت حينها أن صفقة القرن لا تنصُّ نهائيًّا على إقامة دولة فلسطينية؛ فالصفقة لا تضم سوى بعض المقترحات العملية لأجل تحسين حياة الفلسطينيين على المستوى الاقتصادي، لكنَّها لا تضمن إقامة دولة فلسطينية صغيرة بجانب إسرائيل، ويبدو أن الصفقة تتضمن تبادلاً للأراضي بين الكيان الصهيوني والدول العربية المجاورة ليتم تهجير الفلسطينيين في هذه الأراضي البديلة، ولكن برحيل ترامب عن الرئاسة الأمريكية تجمَّدت الصفقة أو الحديث عنها.
ولكن قبل رحيل ترامب وإدارته اليمينية المتطرفة بفترة وجيزة، بدأ الحديث في المنطقة عن مشروع جديد أطلق عليه «الديانة الإبراهيمية».
ففي الثالث عشر من أغسطس عام 2020م، جرى توقيع اتفاقية بين الإمارات والبحرين وإسرائيل في البيت الأبيض تم تسميتها باتفاق «أبراهام»، برعاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وأوضح السفير الأمريكي لدى إسرائيل خلال حفل التوقيع، أن سبب إطلاق تلك التسمية على الاتفاق يرجع إلى أن إبراهيم كان أبًا لجميع الديانات الثلاثة العظيمة، فيُشَار إليه باسم (أبراهام) في المسيحية، و(إبراهيم) في الإسلام، و(أبرام) في اليهودية.
وعقب رحيل ترامب عن البيت الأبيض الأمريكي إثر هزيمته في الانتخابات ومجيء إدارة أمريكية جديدة ديمقراطية بزعامة الرئيس جو بايدن، تراجع الحديث نسبيًّا عن المشروع الإبراهيمي.
وظن الجميع أن هذا الموضوع قد انتهى كما انتهت المشروعات السابقة له، ولكن منذ عام وفي إطار الاحتفال بالذكرى العاشرة لتأسيس بيت العائلة المصرية، فوجئ الجميع بشيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب يتحدث عن ما أطلق عليه الديانة الإبراهيمية، وهاجمها ووصفها بأضغاث الأحلام.
بدأ الطيب الحديث عن الأمر بالقول: «إنه يريد التنبيه؛ قطعًا للشكوك التي يثيرها البعض بغرض الخلط بين التآخي بين الدينين؛ الإسلامي والمسيحي، وبين امتزاج الدينين وذوبان الفروق والقسمات الخاصة بكلٍّ منهما، خاصةً في ظل التوجهات والدعوة إلى الإبراهيمية».
وقال: «إن هذه الدعوات تطمح فيما يبدو إلى مَزْج المسيحية واليهودية والإسلام في دين واحد يجتمع عليه الناس، ويُخلّصهم من بوائق الصراعات»، وتساءل في خطابه «عما إذا كان المقصود من الدعوة تعاون المؤمنين بالأديان على ما بينها من مشتركات وقيم إنسانية نبيلة أو المقصود صناعة دين جديد لا لون له ولا طعم ولا رائحة»؛ حسب تعبيره.
وقال الطيب: «إن الدعوة للإبراهيمية تبدو في ظاهر أمرها دعوة للاجتماع الإنساني والقضاء على أسباب النزاعات والصراعات، وهي في الحقيقة دعوة إلى مصادرة حرية الاعتقاد وحرية الإيمان والاختيار».
حديث الطيب حينها لم ينطلق من فراغ، بل هو ردّ على ضغوط تُمارَس عليه ربما من جهات سياسية خارجية لكي يقود الأزهر مشروع الديانة الإبراهيمية، باعتباره جهة علمية فكرية تحظى باحترام كبير في العديد من الدول الإسلامية، والتي ترسل أولادها ليتلقوا تعاليم الدين من هذا المنبر العتيد.
والعجيب أن شيخ الأزهر لم يتناول في نقده للدعوة الإبراهيمية أيّ دوافع سياسية لها، ولكن الأعجب أن جاء النقد على لسان قس قبطي وهو القمص بنيامين، الذي قال: «إن الديانة الإبراهيمية دعوة مُسيَّسة تحت مظهر مخادع واستغلال للدين».
وفي الشهور القليلة الماضية، أخذت الدعوة لهذه الديانة تأخذ شكلاً مؤسسيًّا متسارعًا في عدد من دول المنطقة، مما يُنْذِر بتداعيات سياسية قد تؤثر على كثير من النواحي العقدية والسياسية لشعوب المنطقة.
وهذا يدفعنا للتساؤل عن حقيقة المشروع الذي يُطلَق عليه الديانة الإبراهيمية؟ وما تداعياته السياسية والفكرية والاستراتيجية على المنطقة العربية؟ وما موقعه في استراتيجيات الدول سواء التي صاغته ودعت إليه، أو الدول المستقبلة لهذا المشروع والمقصودة بهذا المشروع؟
دين جديد أم وئام بين الأديان؟
يرتكز مشروع الديانة الإبراهيمية كأيّ مشروع على ركائز ثلاثة: الفكرة، وحامليها، واستراتيجية تحقيقها.
فبالنسبة للفكرة: يتمحور مشروع إبراهيم كما يراه أصحابه حول التركيز على العامل المشترك بين الإسلام والمسيحية واليهودية، باعتبارها أديانًا إبراهيمية، نسبة إلى النبي إبراهيم -عليه السلام-. كما يتضمن التغاضي عن ما يمكن أن يسبّب نزاعات وقتالاً بين الشعوب.
وهذا ما تحدثت به نصوص اتفاقيات إبراهيم المنشورة على موقع وزارة الخارجية الأمريكية فتقول: «إن المُوقّعين على الاتفاقية يدركون أهمية الحفاظ على السلام وتعزيزه في الشرق الأوسط وحول العالم على أساس التفاهم المُتبادَل والتعايش، وكذلك احترام كرامة الإنسان وحُرّيته، بما في ذلك الحرية الدينية، كما نُشجّع الجهود المبذولة لتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات للنهوض بثقافة السلام بين الديانات الإبراهيمية الثلاثة والبشرية جمعاء».
ويشير هذا النص المنشور إلى تطلُّع حكومات البلاد الموقّعة إلى تحقيق رؤية منطقة شرق أوسط مستقرة وسلمية ومزدهرة لصالح جميع دول وشعوب المنطقة، ورغبتهم في إقامة السلام والعلاقات الدبلوماسية والودية والتعاون والتطبيع الكامل للعلاقات بينها وبين شعوبها.
بينما يرى الدكتور إسماعيل علي، أستاذ الدعوة الإسلامية والأديان بجامعة الأزهر، أن الدعوة للإبراهيمية لها وجهان:
الأول: يقر بوجود ثلاثة أديان إبراهيمية، وكلها صحيحة، وتدعو إلى الوحدة بينها، على أساس ما هو مشترك بينها.
والوجه الثاني: يُلغِي الوجودَ الفعليَّ للأديان الثلاثة؛ ويدعو إلى كتابة دين جديد واحد للعالَم، وتكون عناصره ومكوِّناتُه مستمدةً من الأديان التي أُلغِيت.
أما من يحمل هذه الفكرة والقائمين عليها: فهم عدة فئات؛ منهم رجال الدين أو العلماء في كل ديانة، ومنهم الساسة المؤثرون في سياسة دولهم، ولهم طموح إقليمي ومشاريع استراتيجية للمنطقة، ومنهم أيضًا الدبلوماسيون الذين يتحركون بين الدول المعنية لإقناع الساسة والتأثير عليهم، ومنهم الجماعات الصوفية؛ حيث تمثل الصوفية قيمة روحية مشتركة بين الإسلام والمسيحية واليهودية كما يرون.
ومن القائمين على نشر الفكر مراكز للأبحاث والدراسات، وكذلك بعض الجامعات التي تتمتع بقبول دولي وسُمعة علمية، وفي مقدمتها جامعة هارفارد الأمريكية الشهيرة، والتي قدمت مشروعًا يرصد رحلة النبي إبراهيم بين عشر دول، لترسّخ للفكرة بين الدول المختلفة.
أما الاستراتيجيات التي تتعلق بنشر الفكرة؛ فعند تطبيق نظرية منتزبرج والذي جمع عام 1998م تعريفات الاستراتيجية، فوجد أنها لا تخرج عن خمسة معاني، وهي: الخطة، والنمط، والتموقع، والتصوّر، والحيلة.
ولقد طبق التحالف الصهيوني الأمريكي معنى التموقع من بين المعاني الخمسة عند طرحه لاستراتيجية الديانة الإبراهيمية؛ فهذا التحالف وجد أن مشروعاته السابقة للتمدُّد في الهيمنة والسيطرة على المنطقة قد أصابها الجمود والتكلُّس، خاصةً مع اختلال التوازن الديموغرافي على أرض فلسطين، ففي ديسمبر 2020م، ولأول مرة ارتفعت أعداد العرب ونِسَبهم في مناطق فلسطين الثلاث: غزة والضفة ومناطق 48، إلى ما يفوق تعداد ونسبة اليهود، وهذا التفوُّق السكاني العربي يُهدّد بزوال الكيان الصهيوني، وأن المسألة هي مسألة وقت فقط، وسيجتاح الفلسطينيون دولة الكيان، خاصةً مع تصاعد روح المقاومة لدى الشباب الفلسطيني، والحديث عن تكامل وتعاون بين مناطق الفلسطينيين الثلاث، وتطوير مقاومة غزة لأسلحتها وفي مقدمتها صواريخها وطائراتها المسيرة.
وفي نفس الوقت، وعلى الصعيد الشعبي في المنطقة العربية، ونتيجة لعمليات المقاومة الفلسطينية وتهديدها للكيان الصهيوني؛ فقد تعاظم التأييد مِن قِبَل الجمهور العربي لنصرة فلسطين، فقد أدركت الشعوب لأول مرة منذ تكوين دولة الاحتلال قبل نيّف وسبعين عامًا، أنه بات من الممكن هزيمة الاحتلال وإنهاء حُلمه بإقامة دولة غاصبة على أرض فلسطين.
هنا أدرك التحالف الصهيوني الأمريكي أنه لكي يضمن استمرار مشروعه لا بد من استخدام استراتيجية إعادة التموضع، والتي تتضمَّن إعادة تعريف مصطلح مثل العدو والحليف في شبكة العلاقات التي تحكم العلاقات الإقليمية في المنطقة، ومحاولة اختراع وسرد رواية جديدة للصراع.
فبدلاً من تصوُّر الأمر على أن ما يجري الآن في المنطقة هو حلقة جديدة من تاريخ الصراع بين المسلمين واليهود والمسيحيين، يتم إعادة صياغة النزاع إلى تفاهم بين ما أطلقوا عليها الديانات الإبراهيمية الثلاث؛ لأن أصولهم واحدة ترجع إلى نبينا إبراهيم -عليه السلام-؛ على حد زعمهم.
ولذلك جرى استخدام ما يُطلَق عليه «الدبلوماسية الروحية»، واستخدام مشروع الديانة الإبراهيمية لتحقيق هذا الاندماج، وتغيير النظرة السلبية من الشعوب العربية والإسلامية، تجاه المشاريع الصهيونية.
وهناك من يرى أن الدبلوماسية الروحية ليست إعادة تموضع، ولكنها جاءت تحقيقًا لاستراتيجية شاملة؛ فالاستراتيجيات التي كان يجري بها تسويق المشروع الصهيوني في السابق كان ينقصها البعد الروحي أو الديني.
فلقد سار الكيان الصهيوني في العقدين الأخيرين باستراتيجية كان هدفها الاندماج في المنطقة العربية، أو ما اصطُلح على تسميته بالتطبيع بين الدول العربية والكيان الصهيوني.
وقد احتوت استراتيجية الاندماج تلك على عدة محاور:
التطبيع الاقتصادي: فمثلاً، تم توقيع اتفاقية بين مصر ودولة الكيان الصهيوني عُرفت باسم اتفاقية الكويز، وهي معنيَّة بإقامة مناطق صناعية مشتركة، ونتج عنها أن شهدت معدلات التبادل التجاري بين البلدين زيادة ملحوظة.
وقد أخذ التطبيع الاقتصادي زخمًا قويًّا، خاصةً بعد توقيع شركة موانئ دبي العالمية مجموعة اتفاقيات تعاون مع مجموعة دوفر تاور الصهيونية، المساهِمة في ميناء أحواض بناء السفن الإسرائيلية في حيفا، والشريكة في ميناء إيلات. وهناك حديث عن سعي شركة موانئ دبي لإنشاء طريق شحن مباشر بين إيلات وميناء جبل علي المطل على الخليج العربي.
وهناك أيضًا التطبيع السياسي والأمني، عبر اتخاذ الكيان الصهيوني داعمًا وظهيرًا للحدّ من الهيمنة الإيرانية على المنطقة، كما يوجد التطبيع التكنولوجي، وخاصةً في مجال البرمجيات الذي يتفوق فيها علماء دولة الكيان.
كما شهد التطبيع الإعلامي بُعدًا جديدًا، سواء بتغيير المصطلحات المتداولة حول الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية، أو باستضافة المحللين والسياسيين المنتمين للكيان الصهيوني في الميديا العربية؛ لأخذ آرائهم في شأن المنطقة.
ولكنَّ محور التطبيع الجديد، والذي لم يتم استخدامه من قبل، هو محور التطبيع الروحي بالترويج للديانة الإبراهيمية الجديدة، واعتبار اليهود والنصارى والمسلمين يرجعون إلى أصل واحد.
موقع الديانة الإبراهيمية في الأجندات الإقليمية والعالمية
ينظر كل طرف إقليمي ودولي للإبراهيمية من زاويته الخاصة:
1- رؤية المنطقة العربية
يرتبط الصراع العربي الإسرائيلي بشكل كبير بطريقة إدارة حكومات المنطقة لهذا الصراع والقاعدة التي تقوم عليه.
ففي البداية انطلقت دول المنطقة من رؤية للصراع تقوم على بُعد يغلب عليه العامل القومي من إحياء العروبة ومجد العرب والمصالح العربية المشتركة، وعندما انهارت تلك الدعاوى القومية أخذ الصراع بُعدًا وطنيًّا، فكلّ دولة من دول المنطقة أصبحت ترى القضية من زاوية أمنها القومي الخاص ومصالحها المتعلقة بكل دولة على حدة، في حين كانت القوى الحية لشعوب المنطقة تقوم بتعبئة الرأي العام في اتجاه رؤية إسلامية عقدية، تنظر إلى الصراع على أن هناك كيانًا صهيونيًّا اغتصب القدس، ويحاول هدم الأقصى ثاني القِبْلتين وثالث المساجد التي لا تُشدّ الرحال إلا إليها؛ ليُقيم عليه هيكله المزعوم.
شكَّلت مبادرة السلام العربية التي طرحها ولي عهد المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت؛ الأمير عبد الله بن عبد العزيز، في القمة العربية في بيروت مارس 2002م، وأقرتها القمة في حينه، مرتكزًا أساسيًّا نحو تطلعات الدول العربية في عمومها لإمكانية انفتاح العلاقات مع إسرائيل؛ إذ جاء إعلان المبادرة في حينه ضمن الرؤية العربية القائمة على تحقيق السلام العادل والشامل كخيار استراتيجي للدول العربية.
إلا أن هذه الرؤية، وقبلها لاءات مؤتمر الخرطوم الذي عُقِدَ بعد هزيمة 1967م، والتي اشتهرت بـ(لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل)، لم تعد قائمة، بل إن هناك رؤية جديدة تشكّلت باتجاه هذه العلاقة تقوم على أساس الاستجابة للموقف الأمريكي الداعم والمحفّز لانخراط إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط عبر بوابة بعض دول المنطقة.
قبل عام تقريبًا من توقيع اتفاقية «أبراهام»، وفي ديسمبر 2019م تحديدًا، مهَّد أحد كبار المسؤولين العرب من الدول المُوقِّعة على الاتفاقية لهذه الخطوة، بنشره تغريدة على تويتر لتقرير لمجلة ذا سبكتور البريطانية بعنوان «إصلاح الإسلام.. تحالف عربي إسرائيلي يتشكل في الشرق الأوسط»، وأعاد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو نشرها على حسابه على تويتر؛ معربًا فيه عن سعادته لِما يتمّ من تنسيق بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
وعند النظر إلى استراتيجية تعاطي دول المنطقة مع المشروع الجديد، فلا نستطيع القول: إن هناك توجهًا عربيًّا واحدًا، فبعض الدول التي لها طموح في السيطرة والهيمنة على المنطقة اعتبرته وسيلة للعبور لذلك الهدف، بتبنّيها للمشروع ونشره في الأوساط الشعبية والدينية، لتأخذ دور عراب المشروع، بينما رأته دول عربية أخرى متعارضًا مع مشاريعها للهيمنة، والتي شعرت أن مشروع الإبراهيمية سيشكل عائقًا أمام طموحاتها وأجندتها، بينما لم تُعِرْه دول أخرى أيّ اهتمام.
2- موقع الإبراهيمية في استراتيجية الكيان الصهيوني
تنطلق الرؤية الإسرائيلية في بُعدها الاستراتيجي تجاه منطقة الشرق الأوسط من مبدأين: محاولة الحصول على الدعم الدولي، وعلى شرعية الوجود.
وكل من الأمرين تحتاجه دولة الكيان بهدف مدّ هيمنتها السياسية على المنطقة، وهو ما يُفسّر سعيها المستمر في تطبيع العلاقات مع دول المنطقة في شتَّى المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية.
ويؤيد ذلك الأمر ما ذكَره كتاب (مخطط استراتيجي للساحة الإسرائيلية الفلسطينية) الصادر عن معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب؛ حيث يطرح المؤلفون المرتكزات التي يقوم عليها مشروع الدولة اليهودية الذي تحاول إسرائيل تثبيته حتى في ظل غياب شريك فلسطيني أو تفاهم فلسطيني إسرائيلي على قضايا الحل النهائي، وهو مخطّط -كما ذكر الكتاب- يقوم في بُعده الاستراتيجي، على خَلْق حالة من الهدوء العام لفترة طويلة يمكن التوصل بعده لشكل من التفاهمات على مستوى دولي وإقليمي وعربي، خصوصًا مع تلك الدول العربية التي تُوصف بالبراغماتية.
ولكن ما هو موقع الاتفاق الإبراهيمي في هذه التفاهمات وفق الرؤية الإسرائيلية؟
يبدو أن إسرائيل تريد أن يكون لخطوات تطبيعها مع العرب بُعد شعبيّ وليس مع حكومات المنطقة فقط؛ لضمان الاستمرارية، ولمعرفتها بمكانة الدين في قلوب المسلمين، فبمشاركة العلماء والساسة والشعوب يتمّ تكريس القبول بدولة الكيان الصهيوني في المنطقة.
3- اتفاقيات المشروع الإبراهيمي في الرؤية الأمريكية
في دراسة نشرها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، تحت عنوان (دم إبراهيم)؛ يقول كارتر: «خلال مقابلاتي الطويلة مع رئيس الوزراء بيجين، ومقابلاتي الأطول مع الرئيس السادات، تناقشنا في الديانات الثلاث المؤمنة بوجود الله، وتأثير تلك الديانات على العلاقات القديمة والحديثة بين شعوب الشرق الأوسط، وكذلك تأثيرها علينا كأفراد؛ فنحن الثلاثة نُمثِّل اليهودية والمسيحية والإسلام، ونحن نسعى لتحقيق السلام».
ولكن المشروع بدأت مأسستُه داخلَ وزارة الخارجية الأمريكية عام ٢٠١٣م، حين أشار الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الدين الإبراهيمي الواحد، خلال تقرير الدين والدبلوماسية الصادر عن معهد بروكنجز الدوحة عام 2013م.
وجرى إنشاء فريق عمل حول الدين والسياسة في وزارة الخارجية الأمريكية بقرار من وزيرة الخارجية حينها هيلاري كلينتون، هذا الفريق ضم 100 عضو نصفهم رجال دين من الديانات الثالث، يعملون جنًبا إلى جنب مع الدبلوماسيين بالوزارة.
بينما كان ترامب واضحًا في كلمته في مؤتمر توقيع اتفاقية الإبراهيمية عام 2020م بالقول: «نجتمع هنا لتغيير مسار التاريخ بعد عقود من الصراع، ونشهد فجرًا لشرق أوسط جديد ودولاً عدة ستنضمّ لاحقًا إلى اتفاقات السلام».
وفي مايو الماضي وأثناء تنظيمه لحفل عيد الفطر داخل البيت الأبيض، أكد الرئيس الأمريكي بايدن تشجيعه للمشروع الإبراهيمي حينما قال: «للمرة الأولى منذ عقود، تلاقت الأيام المقدسة للديانات الإبراهيمية الثلاثة في نفس الوقت، فكِّروا في الأمر، وهذه رسالة يا رفاق وأنا أؤمن بهذا حقًّا».
فأحد أهداف الولايات المتحدة الكبرى الموجهة للشرق الأوسط، هي تدعيم دولة الكيان الغاصب، ومؤشرات عديدة تدلّ على أن المشروع الإبراهيمي بدأ من داخل أمريكا، أو على الأقل تمت بلورته ومحاولة فَرْضه على شعوب المنطقة باستخدام أدوات الهيمنة الأمريكية.
ولكنَّ الأمل ما يزال معقودًا على القوى الحية في الشعوب العربية، والتي تأبى أن يتم تغيير هويتها الإسلامية، أو فرض وجود الكيان الغاصب على أرض فلسطين.
_______________________________________________________
الكاتب: حسن الرشيدي