عثرات المؤمنين
العصبة المؤمنة إذا اعتراهم خوف في بعض المواطن كلهم أو جلهم أو بعضهم، فهذا لا يقدح في صدق إيمانهم، وحسن يقينهم.
المؤمن يحبُّ ربَّه، يرجو رحمتَه، ويخشى عذابَه، والمؤمن يوقن بأن الله واحد لا شريك له، واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، واحد في أسمائه وصفاته، وشهادة التوحيد متضمنة أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وكلمة الإخلاص التي هي "لا إله إلا الله محمد رسول الله" تبعث في نفس المؤمن القوة واليقين، والعز والفخار بأنه عبد لله رب العالمين؛ لأن شهادة التوحيد كما قال أرباب العارفين، وأهل اليقين تعني بكل وضوح أن الله هو القوة الوحيدة في هذا الوجود، وأن الله هو الحقيقة الوحيدة في هذا الكون، فالكون كله إلى فناء إلا رب العالمين، والكون كله إلى زوال، إلا الله رب العالمين، قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، وقال عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، فالمؤمن الصحيح الإيمان لا يخاف أحدًا إلا الله رب العالمين، ولا يرجو أحدًا إلا الله؛ ولكن أكمل المؤمنين إيمانًا وأحسنهم أخلاقًا تعرِضُ لهم حالات، يهتزُّ فيها إيمانُهم، ويتسرَّب الخَلَلُ فيها إلى قلوبهم، ويخافون فيها من غير ربِّهم، فهل ذلك ينقص من إيمانهم، أو يطعن في صدق يقينهم؟
كلَّا، فهذه طبائع البشر؛ لأن النقص ملازم للنفس الإنسانية، ولا يوجد إنسان كامل إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهذا هو جيل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أستاذ الإنسانية الأول، وأحسن من أقلَّتْه الغَبْراء، وأظلَّتْه الخضراء، وكان صحابته أفضل البشر بعد الأنبياء، وقدَّمُوا للتاريخ أمثلة تُحتذَى، ونماذج تُقتدَى، في صدق اليقين وروعة الإيمان بربِّ العالمين، والخوف من الله وحده، وعدم الخوف من أحد سواه، نجدهم في غزوة الأحزاب، حين تكالَبَ الأعراب على المؤمنين، وتوحَّدت الجزيرة العربية لأول مرة في تاريخها، لاستئصال ِشأفة الإسلام، وإبادة المسلمين، واجتمع سُكَّان شبه الجزيرة العربية من البادية والحاضرة، ومن الشمال والجنوب، ومن عبدة الأوثان ومن اليهود، وزحفوا إلى المدينة المنورة لوضع النهاية التي يحلمون بها لدين الإسلام، ولا نجد أدقَّ وَصْفًا، ولا أحسن تصويرًا لوقائع هذه العزوة من قول ربِّنا عزَّ وجَلَّ في كتابه الكريم، ففي سورة الأحزاب يقول ربُّنا تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب: 9 - 15].
فالأبصار زاغت، وبلغت القلوب الحناجر، وظن المؤمنون بالله الظنون، والرسول صلى الله عليه وسلم معهم، والله يحوطهم برعايته، ومع ذلك بلغ منهم الخوف هذا المبلغ الرهيب، حتى يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من واحد من الصحابة أن يأتيه بخبر القوم، ويضمن له الجنة، فيملأ الخوفُ قلوبَهم، ولا يُسارِع أحدهم لتلبية طلب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الصحيح، عن يزيد بن شريك التميمي قال: كنا عند حذيفة فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلت معه وأبليت، فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة»؟ فسكتنا، فلم يُجِبْه منا أحد، ثم قال: «ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة»؟ فسكتنا، فلم يجبه منا أحد، ثم قال: «ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة»؟ فسكتنا، فلم يُجِبْه منا أحد، فقال: «قُمْ يا حذيفة، فأتِنا بخبر القوم» فلم أجِدْ بُدًّا؛ إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: «اذهب، فأتني بخبر القوم ولا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمَّام، حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يَصْلِي ظَهْرَهُ بالنار، فوضعتُ سهمًا في كَبِدِ القَوْسِ، فأردْتُ أن أرْمِيَه، فذكرتُ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ»، ولو رميتُه لأصبْتُه، فرجعتُ وأنا أمشي في مثل الحَمَّام، فلما أتيتُه أخبرته بخَبَرِ القومِ وفَرَغْتُ، قُرِرْتُ، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحتُ، فلما أصبحتُ قال: «قُمْ، يا نومان» !))؛ (رواه مسلم في صحيحه) .
فانظر إلى الخوف الذي سيطر على قلوب المؤمنين في هذا الموقف الرهيب، حتى يطلب المصطفى صلى الله عليه وسلم من واحد منهم، أن يأتيه بخبر القوم، فلا يجيب أحد، وفيهم العشرة المبشرون بالجنة، وفي هذه اللحظات الحاسمة يجلس بين يدي النبي أحسن البشر، وأفضل الثقلينِ بعد الأنبياء، ومع ذلك يجبن الجميع، ويخاف القوم من الذهاب للإتيان بخبر القوم، بالرغم من أنَّ الثمن هو مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
فالدرس المستفاد هنا: أن العصبة المؤمنة إذا اعتراهم خوف في بعض المواطن كلهم أو جلهم أو بعضهم، فهذا لا يقدح في صدق إيمانهم، وحسن يقينهم.
___________________________________________________
الكاتب: أ.د حلمي عبدالحكيم الفقي
- التصنيف: