أمة الثلث الأخير
قد أكرمنا الله تعالى بأن جعل الثلث الأخير من الليل هو أفضل الأوقات لِما تتنزَّل فيه من البركات والرحمات، وتجاب فيه الدعوات، فالله تعالى ينزل فيه إلى السماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله، ويقول: هل مِن داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من صاحب حاجة فأقضيها له؟
- التصنيفات: - آفاق الشريعة -
لأُمَّتنا سِرٌّ عجيبٌ بارتباطها بالثلث الأخير، فقد ورد في صحيح البخاري من حديث ابن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَت الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَت النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِن الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ، فَغَضِبَت الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».
لقد عمل اليهود من بعد صلاة الفجر إلى الظهر، وعمل النصارى من بعد صلاة الظهر إلى العصر، والمسلمون وقتهم من بعد العصر إلى غروب الشمس، وهو الثلث الأخير المبارك، وسيأخذون أجر يوم كامل، وذلك فضل الله على هذه الأُمَّة.
ولأن رسولنا صلى الله عليه وسلم بعث إلينا حين بقي الثلث الأخير من زمن الحياة فقد أكرمنا الله تعالى بأن جعل الثلث الأخير من الليل هو أفضل الأوقات لِما تتنزَّل فيه من البركات والرحمات، وتجاب فيه الدعوات، فالله تعالى ينزل فيه إلى السماء الدنيا نزولًا يليق بجلاله، ويقول: هل مِن داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من صاحب حاجة فأقضيها له؟
وعندما تنظر إلى السنة تجد أن شهورها اثنا عشر شهرًا أفضلها شهور الثلث الأخير منها، وشهور ثلثها الأخير فيها أيام العشر الأول من ذي الحِجَّة التي هي خير أيام الدنيا، وخير خيرِ أيام الدنيا أيام ثلثها الأخير يوم التروية وعرفة والأضحى.
وتجد أن خير ليالي سنتنا هي ما كان أيضًا في رمضان، وهو من أشهر ثلثها الأخير، وفي هذا الثلث الأخير من السنة أيضًا ثلاثة أرباع الأشهر الحُرُم المعظَّمة التي حدَّثنا الله عنها.
والأسبوع أفضله ثلثه الأخير؛ لما فيه من يوم عظيم؛ وهو يوم الجمعة، وأفضل ساعات يوم الجمعة ساعات ثلثه الأخير من بعد العصر إلى غروب الشمس.
وقد بُعِث إلينا النبي صلى الله عليه وسلم في ثلثه الأخير من عمره، فكان عمرًا مباركًا عدل ثلثيه؛ بل عدل أعمارًا ودهورًا.
ولأنَّا أُمَّة الثلث الأخير فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في الثلث الأخير من رمضان اجتهادًا عظيمًا، فقد ثبت عنه أنه كان يشد فيها المئزر، ويُحيي ليله، ويُوقِظ أهله، وهذا الثلث الأخير من رمضان أفضله ثلثه الأخير، وفيه ليلة السابع والعشرين من رمضان التي يُرجى أن يكون فيها ليلة القَدْر، وفي هذا الثلث الأخير من الثلث الأخير ليلة أعظم من ليلة القدر، وهي آخر ليلة من الشهر؛ حيث يعتق الله فيها رقاب عباده المُنيبين إليه، المُقْبِلين عليه، ويوفيهم أجْرَهم، ويُكرِمُهم بعطائه.
نحن أُمَّةُ الثلث الأخير لمجيئنا فيه زمنًا، والمطلوب مِنَّا أن نكون سبَّاقين فيه؛ لنكون مُنْتجين أحسن من غيرنا، وغالبًا ما يكسل الإنسان عن الإنجاز، فإذا انصرم الوقت وتبقَّى ثلثُه الأخير تجد العامل أو الكاتب والمبدع ينكَبُّ على عمله فيُنجِزه فيما تبقَّى من هذا الثُّلُث؛ لما لهذا الوقت من بركة.
أخيرًا فكرة "أنا نحن أمة الثلث الأخير" أخذتُها من الأستاذ الأديب فؤاد الحميري حفظه الله، وتأمَّلتُ فيها فوجدتُها صائبةً وعليها شواهد كثيرة لمن تأمَّل، والواجب علينا اغتنام أوقاتنا، فلعَلَّ كُلَّ مَنْ يطَّلِع على هذا المقال هو في الثلث الأخير من عمره، فماذا أنت فاعل في هذا الثلث الأخير؟
إنك إن اجتهدت فيه ربحت وسعدت وعوَّضْت كل ما فاتك، وإنْ استمررت في ضياعك فقد فاتك الخير كُلُّه والعطاء والبركات.
__________________________________________________
الكاتب: عامر الخميسـي