رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة لجميع عموم الثقلين
سورة الرحمن، والأحقاف و قل أوحي، دليلٌ على أن الجن مخاطَبون مكلَّفون مأمورون منهيُّون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الجنّ والإنس.
يقول ابن تيمية (2): وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين، وسائر طوائف المسلمين: أهل السنة والجماعة، وغيرهم.
يدل على ذلك تحدي القرآن الجن والإنس: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وقد سارع فريقٌ من الجن إلى الإيمان عندما استمعوا القرآن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1، 2][1].
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن، فآمنوا به وصدَّقوه وانقادوا له[2].
فـفيه إثبات سماع الجن للقرآن وإعجابهم به، وهدايتهم بهديه، وإيمانهم بالله [3].
وفي استماع الجن للقرآن وإيمانه به ووصفه بأحسن الأوصاف، إقرارٌ منهم بالعبودية لله تعالى.
{قُرْآنًا عَجَبًا}؛ أي: بديعًا مباينًا لسائر الكتب في حسن نظمه[4].
وفي هذا كله دلالة على فصاحته وبلاغته وحسن مواعظه، وهذا مما لا شك كان له أبلغُ الأثر في هداية الجن، وسماعهم وإصغائهم لكلام ربهم جل في علاه.
وهؤلاء الذين استمعوا القرآن وآمنوا هم المذكورون في سورة الأحقاف: في قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 29 - 31].
هم: من أهل نصيبين، فلما حضروا القرآن ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ، قال بعضهم لبعض: أنصتوا لنستمع القرآن، وجعلهم رسلًا إلى قومهم[5].
ووفود الجن تلقَّوا العلم من النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك كانت بداية معرفة الجن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، استمعوا لقراءة القرآن بدون علم الرسول صلى الله عليه وسلم، فآمن فريق منهم، وانطلقوا دعاة هداة.
ثم جاءَت وفود الجن بعد ذلك تتلقى العلم من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من وقته، وعلَّمهم مما علمه الله، وقرأ عليهم القرآن، وبلغهم خبر السماء... وكان ذلك في مكة قبل الهجرة.
روى مسلم في صحيحه عن عامر، قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلتُ: هل شهد أحدٌ منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ففقدناهُ، فالتمسناهُ في الأودية والشعابِ، فقلنا: استُطير أو اغتُيل، قال فبتنا بشر ليلة بات بها قومٌ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلةٍ بات بها قومٌ، فقال: «أتاني داعي الجنِّ، فذهبتُ معه، فقرأتُ عليهم القرآن»، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد، فقال: «لكم كلُّ عظمٍ ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم، أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرةٍ علفٌ لدوابِّكم»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعامُ إخوانكم»[6].
قال القرطبي – رحمه الله – في تفسير سورة الرحمن:
هذه السورة والأحقاف و قل أوحي، دليلٌ على أن الجن مخاطَبون مكلَّفون مأمورون منهيُّون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك[7].
قال ابن القيم رحمه الله: وبالجملة فهذا أمرٌ معلوم باضطرار من دين الإسلام، وهو يستلزم تكليف الجن بشرائع، ووجوب اتباعهم لهم، فأما شريعتنا، فأجمع المسلمون على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعث إلى الجن والإنس، وأنه يجب على الجن طاعته كما يجب على الإنس[8].
وقال - رحمه الله - أيضًا:
الصواب الذي عليه جمهور أهل الإسلام أنهم مأمورون منهيون مكلفون بالشريعة الإسلامية، وأدلة القرآن والسنة على ذلك أكثر من أن تُحصر[9].
وقال نجم الدين الطوفي (ت: 716هـ) رحمه الله: والدليل على تكليف الجن بالفروع الإجماعُ على أن النبي صلى الله عليه وسلم أُرسِلَ بالقرآن الكريم إلى الجن والإنس، فجميع أوامره ونواهيه متوجهة إلى الجنسين، وهي مشتملة على الأصول والفروع، نحو {آمِنُوا بِالله} [الحديد: 7]، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43]، وقد تضمَّن هذا الدليل على أن كفار الإنس مخاطبون بها، وكذلك كفار الجن لتوجه القرآن بجميع ما فيه إلى مؤمني الجنسين وكفارهم[10].
ومما يدل على أن الجن كانوا مؤمنين ببعثة الرسل السابقين أيضًا، قوله سبحانه: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30].
وهذا كله مما يدلل على عبوديتهم لله سبحانه وتعالى، والحمد لله رب العالمين.
[1] مجموع الفتاوى: 19/9.
[2] ابن كثير: (8/ 238).
[3] أضواء البيان للشنقيطي: (3/ 817).
[4] تفسير النسفي: (3 /548).
[5] الطبري: (22/ 135-140).
[6] رواه مسلم: 1/ 332. ورقمه: 450. وانظر عالم الجن والشياطين: (1: 45).
[7] تفسير القرطبي: (17/ 169).
[8] طريق الهجرتين: (ص 616، 617) .
[9] طريق الهجرتين: (ص: 619).
[10] شرح مختصر الروضة: (1 / 218، 219).
____________________________________________________________
الكاتب: الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي