الإسراف في الطعام وتنافيه مع مقاصد الصيام
لعلَّنا جميعًا نرى مظاهرَ الإسراف في الطعام على مَائدات المسلمين خلال شهر رمضان المبارك، وتُعد صفة الإسراف من الصفات المذمومة التي نهى الإسلام عنها، حيث قال الله تعالى في المسرفين: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان - فقه الطعام والشراب -
لعلَّنا جميعًا نرى مظاهرَ الإسراف في الطعام على مَائدات المسلمين خلال شهر رمضان المبارك، وتُعد صفة الإسراف من الصفات المذمومة التي نهى الإسلام عنها، حيث قال الله تعالى في المسرفين: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].
وتتجلَّى معاني القرآن عن الإسراف في الطَّعام والشراب في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، ونهى أيضًا عن التبذير في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].
وهنا نريد أن نشير إلى ضرورة التفرقة بين التبذير والإسراف؛ كما قال بعض العلماء، فالتبذير يَعني: صرف الأموال في غير حقِّها؛ إمَّا في المعاصي، وإما في غير فائدة؛ لعبًا وتساهلًا بالأموال، أمَّا الإسراف: فهو الزيادة في الطعام والشراب واللِّباس، في غير حاجةٍ، وبالطبع هذا ما يفعله الكثير خلال شهر رمضان المعظم.
وللإسراف مشاكل عديدة؛ منها مشاكل ماديَّة تقع على كاهِل الأسرة، ومشاكل صحِّية؛ حيث إنَّ الإسراف في أكل ما لا حاجة للجسم له من الطَّعام يعود بالمشاكل الجسيمة على الجهاز الهضمي للإنسان.
لذا كان من الواجب علينا أن نضيء بعض الكلمات التي قد يَكون لها الدور الفعَّال في قطع طريق الإسراف؛ وذلك في محاولة منَّا للقضاء على هذه الصِّفة المذمومة.
الاستفادة من حكمة الصيام:
الحكمة من الصيام هي شعور المسلمين بحاجة الضعفاء والمساكين، وليس المزيد من الإسراف والتبذير فيما لا فائدة منه؛ لذا فإنَّ الاهتمام بالمأكولات والمشروبات أمر يهدِّد استفادة المسلمين من حِكمة الصيام، وهنا نتذكَّر قول الشيخ محمد بن إبراهيم الحمد الداعية الإسلامي: "إنَّ الله فرض صيام رمضان ليتعوَّد المسلم على الصَّبر وقوَّة التحمُّل؛ حتى يكون ضابطًا لنفسه، قامعًا لشهوته، متَّقيًا لربِّه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]".
إنَّ مما يبعث على الأسف ما نراه من إسراف كثيرٍ من الناس في الطعام والشراب في هذا الشهر؛ حيث إن كميات الأطعمة التي تَستخدمها كلُّ أسرة في رمضان أكثر منها في أي شهر من شهور السنة! إلَّا مَن رحم الله، وكذلك فإنَّ المرأة تقضي معظم ساعات النهار داخل المطبخ لإعداد ألوان الأطعمة وأصناف المشروبات!
وقد سئل بعض السلف: لمَ شُرع الصيام؟ فقال: ليذوق الغَنيُّ طعمَ الجوع فلا ينسى الفقير.
وفي الصِّيام معنى المساواة بين الأغنياء والفقراء في الحرمان وترك التمتُّع بالشهوات؛ وهذا من شأنه أنْ يَرفَع من نَفْس الفقير؛ إذ يجِد الغنيَّ مثلَه في القِيام بهذه الفَرِيضة، كما أنَّه يُفَجِّر يَنابِيعَ الرَّحمة والعَطف في قلوب الأغنياء، ويحثُّهم على مُواساة الذين ضاقَتْ بهم سُبُل العيش؛ فتتآلف القلوب وتَذهَب الأحقاد، ويَتعاوَن الفُقَراء والأغنِياء على النُّهوض بالمجتمع وتوفير الطمأنينة له.
ولقد كان يوسف عليه السلام أمينًا على خَزائن الأرض، وكان يُكثِر من الصِّيام، فسُئِل عن ذلك فقال: "أخاف أنْ أشبَع فأَنسى الجائع".
إسراف الأسرة المسلمة في الطعام والشراب:
وهنا نلقي اللومَ على الأسرة المسلمة؛ لأنها بدورها هي المتحكِّمة فيما يخص الطعامَ والشراب خلال شهر رمضان؛ لذلك يمكنها أن تضع حدًّا للإسراف والتبذير، وهذا بالطبع له آثار تربويَّة على الأبناء، واقتصادية على الأسرة كلها، وهنا نَستعين ببعض أقوال العلماء والمتخصصين في سدِّ هذا الخلَل الأسري:
حيث يقول الدكتور سعد محمد المقرن أستاذ الاقتصاد: من الملاحظ تحوُّل شهر رمضان إلى شهر استهلاكي عند كثيرٍ من الناس بشكلٍ يفوق المعتاد ويخرج إلى حدِّ التبذير، وهو أمر يَحتاج إلى وَقفة؛ لِما له من آثار سلبيَّة كثيرة؛ فشهر رمضان في الحقيقة يعد - بعد كونه تقوى لله جلَّ وعلا - فرصة لإعادة التنظيم الاقتصادي للبيت والأسرة والمجتمع، وطبيعة الصيام من المفترض أن تساعِد على ذلك، فتحول النظام الغذائي من ثلاث وجبات في الأيام العادية إلى وجبتين، وضيق الوقت للإفطار المتاح بالنسبة لسائر الأيام أمرٌ له معناه، وهو فرصة لتخفيض النظام الاستهلاكي لدى الأسر، خاصَّة أننا أصبحنا أمَّةً استهلاكية أكثر منا أمَّة إنتاجية، ومما لا يخفى على أحد أن حمَّى الشراء تؤدِّي مع الوقت إلى خلل في اقتصاديات الأسرة، وينتج عنها آثار سلبيَّة مادية وتربوية.
♦ وبلُغَة الإحصاءات والأرقام فإنَّه في أحد الأعوام قُدِّر نصيب شهر رمضان من جملة الاستهلاك السنوي في إحدى الدول العربية بما نسبته 20 %؛ أي: إنَّ هذه الدولة تستهلك في شهر واحد - وهو شهر رمضان - خُمسَ استهلاكها السنوي كله، بينما تَستهلك في الأشهر المتبقية أربعة الأخماس الباقية، وقد كلَّف رمضان في ذلك العام الخزانةَ حوالي 720 مليون دولار.
أيضًا تشير بعض الدِّراسات التي أُجريت حديثًا إلى أنَّ ما يُلقى ويتلف من مواد غذائية ويوضع في صناديق القمامة - كبيرٌ إلى الحدِّ الذي قد تبلغ نسبته في بعض الحالات 45 % من حجم القمامة.
وعلى الأسرة المسلمة تجنُّب مصاحبة المسرفين والمترفين، وملازمة الذين يَدعون ربَّهم بالغداة والعشيِّ يريدون وجهه، وفي هذا الخصوص يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرجل على دِين خَليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل»، كما قال صلَّى الله عليه وسلم: «لا تصاحِب إلَّا مؤمنًا، ولا يأكل طعامَك إلَّا تقي».
الأضرار الصحيَّة للإسراف في الطعام والشراب خلال شهر رمضان:
الدكتور ماجد النوفل أستاذ علوم الأغذية يقول: الإسراف في تناول الطعام يؤدِّي إلى انخفاض كفاءة وقدرة الجسم على النَّشاط البدني والذِّهني، ونحن في شهر رمضان المبارك نسرِف في تناول الطعام مما يؤثِّر على حُسن العبادة؛ لذلك كان لقمان ينصح ابنَه بقوله: يا بني، إذا امتلأتِ المعدة، نامَت الفكرة، وخرست الحِكمة، وقعدَت الأعضاءُ عن العبادة.
وإذا كانت جميع الدراسات الصحيَّة قديمًا وحديثًا قد توصَّلَت إلى ضرورة عدم الإسراف، فإنَّ القرآن الكريم قد سبَق ذلك عندما ذكر في آياته الكريمة القاعدةَ الصحيَّة في التغذية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وأفضل طريقة لتَنفيذ هذه القاعدة الصحيَّة ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم: «نحن قوم لا نأكل حتى نَجوع، وإذا أكلنا لا نَشبع»، وقال أيضًا: «كلوا واشربوا، والبسوا وتصدَّقوا، من غير مخيلة ولا إسراف».
ويضيف الدكتور النوفل: أثبتَت الدِّراسات العلميَّة الحديثة أن الفائدة الصحيَّة من تقليل كمية الطعام المتناولة تَرجع إلى انخفاض تكوين ما يعرف بالشقوق الحرة في الجسم، وهي مركَّبات تتحرَّك داخله في كل الاتجاهات وتدمِّر في حركتها خلايا الجسم، سريعة التعرض للإصابة، وأيضًا تتلف أغشية الخلايا العادية وجزءًا من الشفرات الوراثية المسؤولة عن سلامة التشغيل العادي لأجهزة الجسم.
ونتيجة لذلك ينخفِض معدَّل كفاءة العمليات الحيوية في الجسم الذي يُسرف في تناول الطَّعام؛ فيتعرَّض إلى سرعة ظهور أعراض الشيخوخة، مع ارتفاع نسبة تعرُّضه للإصابة بالأورام والأمراضِ المختلفة.
وهناك آراء علمية تعتبر أنَّ الإقلال من تناول الطعام هو العلاج الذي يزيد من كفاءة العمليَّات الحيوية في الجسم، ويدعم قدرة الخلايا على التعامل مع المواد الضارَّة التي تَدخل جسم الإنسان.
أما الجديد الذي أثبتَته الدِّراسات الحديثة، فأنَّ هناك فائدة أخرى من تقليل تناول الطعام، وهي وقاية الجسم من أضرار التداخلات الغذائيَّة التي تَحدث عادة من الإسراف في الطعام، فمع الأضرار المعروفة للإسراف في تَناول اللحوم والدواجن ومنتجاتها؛ من التعرُّض للإصابة بحصوات الكُلى ومرض النَّقرس، فإنَّها تتداخل أيضًا - سلبيًّا - مع الكالسيوم في الجسم، وتزيد من معدل فَقده في البول، ممَّا يضعف العظام فتصاب بالهشاشة، وتعتبر هَشاشة العظام من أهمِّ المشاكل الصحيَّة التي تعاني منها بعضُ الدول المتقدِّمة بسبب إسرافها في تناول اللحوم ومنتجاتها، بالرغم من زيادة معدَّل استهلاكها للألبان.
الإسراف في الطعام والشراب خلال شهر رمضان نتيجة للتحمُّس الزائد:
أكَّد الكاتب الاقتصادي فارس التركي أنَّ "ارتفاع الاستهلاك خلال شهر رمضان هو نوع من الحماس مع بداية الشهر"، مشيرًا إلى أنَّ الإنسان حينما يكون في مواجهة الجوع يتحمَّس للشراء بكمِّيات أكثر؛ وهذا يعود إلى أسباب نفسيَّة يُحدِثها الانقطاع عن الأكل.
وأضاف: "ارتفاع الاستهلاك غير المدروس بالتأكيد يولِّد الفائض الذي لا يمكن الاستفادة منه خلال الشهر الفضيل، ويَحدث هذا الفائض بسبب العادات والتجمعات الأسرية التي تَقتضي علينا الإفطار خارج منازلنا".
ونبه الفارس إلى ضرورة تَنبيه المستهلك إلى مَسألة العروض التي تشجِّع على الشراء فوق الحاجة، وقال: "الاستهلاك في رمضان يزداد همجيَّةً مع المال والنعم، وهو نوع من التخلُّف والعَبَث".
وقال الخبير الدكتور إسماعيل الجريوي: "الاستهلاك أصبح ظاهرة غير صحيَّة وغير حضاريَّة، نتجَت عن مفهوم خاطئ لرمضان وتصورٍ مغلوط للجوع والعطش؛ ما جعل الناس يُقبلون بغير وعيٍ على الشراء بكثرة، وهذا يخالِف المفهوم الصَّحيح لفكرة الصيام الصحيحة".
وقال: "تنمو هذه الظَّاهرة الاجتماعية بسبب عدم فهم المقصود من الصيام"، موضحًا: "هدف الصيام تَهذيب الإنسان وإبقاؤه بعيدًا بعض الوقت عن العادات الغذائيَّة السيئة"، مؤكدًا أن "ازدياد الاستهلاك يخالِف الفكرة الأساسية للصيام؛ حيث إنَّ زيادة الاستهلاك تؤثِّر في الجو الروحي لهذا الشهر".
وأضاف الجريوي: "الاستهلاك المبالَغ فيه يشير إلى غياب الوعي، ويؤكِّد مخالفة الإنسان طبيعته البشريَّة التي أساسها احترام النِّعمة والقيمة الغذائية التي أُتيحَت له وحُرم منها الآخرون".
وتابع الجريوي: "هناك مفارقات نجدها في المجتمع؛ فنلاحظ إمساكَ بعض الأُسر الغنيَّة عن الاستهلاك، وإسراف بعضها الآخر من الفقيرة أو المتوسطة؛ وهذا لأنَّ الطبقة الوسطى والفقيرة عادة يتشبَّعون بما ليس عندهم، وهؤلاء في الغالب يتأثَّرون ببعض النماذج السيئة من الطبقات العليا".
وقال: "ظاهرة الإسراف في المأكل أصبحَت ظاهرة لافتة، رعاها الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، التي جعلَت المشتركين فيها يَحرصون على تكبير الموائد وتزيينها من أجل التِقاط صورة، فأصبحَت ظاهرة مجتمع، وأصبح ارتباط رمضان بالأكل ارتباطًا وثيقًا، حتى اقترنَت بعض الأطعمة والمشروبات بهذا الشهر دون غيره".
الإسراف في شهر رمضان يأتي نتيجة لخلل نفسي متوارث:
أكَّد د. عدنان فضلي (مختص الطب النفسي) أنَّ الإسراف وإن كان قد ارتبَط بشهر رمضان من حيث الإكثار من شِراء السلع الغذائية، إلَّا أنه يدلُّ على نوعٍ من الخلل النفسي المتوارث في الشخصية، فيما يجب أن يَكتفي المسلم المتعبِّد الحقيقي بالقليل من الطعام والشراب.
وقال: إنَّ رمضان بشكل عام يعدُّ فرصة لالتقاء الأسر على موائد واحدة، في تجمُّعات مع الأهل والأصدقاء والأقرباء، وبالتالي تعمُّ الموائد الكثير من الأطعمة والحلويات المرتبطة بالشهر، إلَّا أن الإنفاق غير المقنن يدلُّ على حالة من الاضطراب لدى البعض؛ ومن ذلك المشهد الذي بدا ملحوظًا حاليًّا في الأسواق؛ من الأعداد المتزايدة من المتسوقين الذين بدؤوا في الاستعداد لرمضان بتَكديس السِّلَع على أنواعها في عربات التسوُّق التي يجرُّونها أمامهم، وكأنَّ هناك مجاعة قادمة، أو حصارًا مفروضًا!
وختامًا:
على المسلم أن يكرِّس جهده وطاقته للطاعات والعبادات؛ كقراءة القرآن الكريم، والذِّكر، وقيام الليل، وغيرها من الطاعات والمِنَح المتاحة خلال شهر رمضان المعظم، وألَّا يشغل بالَه بشراء الكثير من الطعام وتحضير الأنواع المختلفة، قال سفيان الثوري رحمه الله: "إذا أردتَ أن يصحَّ جسمك ويقل نومك، أقلِل من طعامك"، وقيل للإمام أحمد رحمه الله: هل يجد الرجل من قلبه رِقَّةً وهو شَبع؟ قال: ما أرى؛ أي: ما أرى ذلك.
_________________________________________________________
الكاتب: محمود مصطفى الحاج