وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ
الضمير في قالوا عائد على اليهود، وهم أبناء بني إسرائيل الذين كانوا بحضرة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قالوا ذلك بهتاً ودفعاً لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ (89) }
{{وَقَالُواْ}} الضمير في قالوا عائد على اليهود، وهم أبناء بني إسرائيل الذين كانوا بحضرة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قالوا ذلك بهتاً ودفعاً لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات، وأعجزتهم عن مدافعة الحق المعجزات.
{{قُلُوبُنَا غُلْفٌ}} من قرأ: {{غُلْف}} بالإسكان من الغلاف هو الغشاء الساتر للشيء من وصول ما يكره له.
فمعناه عليها غلف لا تصل إليها الموعظة، وتكسوها غشاوة تسترها عن الفهم والوعي والتمييز. وهذا كلام كانوا يقولونه للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم وهو كقول المشركين: {{قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ}} [فصلت:5]
وفي الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوبا عم لا يلائمه فإن ذلك معنى الغلاف، فهم يخيلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات، ولذلك قال المفسرون إنه مؤذن بمعنى أنها لا تعي ما تقول ولو كان لوعته، وهذان المعنيان اللذان تضمنهما التوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم، ولا لربوها عن قبول مثل ما دعوا إليه، ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه.
وأما من قرأ {{غُلُف}} بضم اللام، فمعناه أنها أوعية للعلم فلو كان ما تقوله حقاً وصدقاً لوعته.
ويحتمل أن يكون المعنى: أن قلوبنا غلف، أي مملوءة علماً، فلا تسع شيئاً، ولا تحتاج إلى علم غيره، فإن الشيء المغلف لا يسع غلافه غيره.
ويحتمل أن يكون المعنى: أن قلوبهم غلف على ما فيها من دينهم وشريعتهم، واعتقادهم أن دوام ملتهم إلى يوم القيامة، وهي لصلابتها وقوّتها، تمنع أن يصل إليها غير ما فيها، كالغلاف الذي يصون المغلف أن يصل إليه ما بغيره.
وفي الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، وإبعاد لهم عن مقام الحضور، فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجرى على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراض البال عنه، فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد.
{{بَل}} بل: للإضراب، والإِضرابُ على قسمين: إبطالٍ وانتقالٍ، وهنا ليس إضراباً عن اللفظ المقول (اضراب انتقالي)، لأنه واقع لا محالة، فلا يضرب عنه، وإنما الإضراب عن النسبة التي تضمنها قولهم: إن قلوبهم غلف (اضراب إبطالي)، أي أن الله تعالى أبطل حجتهم هذه، لأن القلوب خلقت متمكنة من قبول الحق، مفطورة لإدراك الصواب، فأخبروا عنها بما لم تخلق عليه.
{{لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ}} بل قلوبهم ملعونة بسبب ما تقدم من كفرهم، وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الذي هو الكفر.
يعني ليست القلوب غَلفاء لا تقبل الحق، لكن هناك شيء آخر هو الذي منع من وصل الحق؛ وهو لَعْن الله إياهم بسبب كفرهم.
{{فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ}} فإيماناً قليلاً يؤمنون، لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى، ولموافقته ظاهر قوله تعالى: {{فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}} [النساء:46] مشارا به إلى إيمانهم ببعض الكتاب، قال معمر: لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره.
أو إلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوة موسى.
أو إلى إيمان أفراد قليلة منهم، لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود.
ويجوز أن يكون {{قليلا}} هنا مستعملا في معنى العدم، فإن القلة تستعمل في العدم في كلام العرب، ويقولون فلان «قليل الحياء» أي عديم الحياء. قال الواقدي: معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا.
{{وَلَمَّا جَاءهُمْ}} اليهود {{كِتَابٌ}} القرآن {{مِّنْ عِندِ اللّهِ}} وصفه بمن عند الله جدير أن يقبل، ويتبع ما فيه، ويعمل بمضمونه، إذ هو وارد من عند خالقهم وإلههم الذي هو ناظر في مصالحهم {{مُصَدِّقٌ}} موافق، صفة ثانية لزيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر، وقدّمت الأولى عليها، لأن الوصف بكينونته من عند الله آكد، ووصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله {لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة والإنجيل، كذبوه، ويكون التكذيب حاصلاً بنفس مجيء الكتاب من غير فكر فيه ولا روّية، بل بادروا إلى تكذيبه.
{{وَكَانُواْ مِن قَبْلُ}} أي من قبل المجيء {{يَسْتَفْتِحُونَ}} يستنصرون، والاستفتاح ظاهره طلب الفتح أي النصر قال تعالى: {{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}} [الأنفال:19]، وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة وهي أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى الخذلان والبهتان.
{{عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}} يقولون إذا دهمهم العدو: اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في آخر الزمان، الذي نجد نعته في التوراة، فكانوا ينصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وإرم.
{{فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ}} وما سبق لهم تعريفه للمشركين {{كَفَرُواْ بِهِ}} ستروه وجحدوه، وهذا أبلغ في ذمهم، إذ يكون الشيء المعروف لهم، المستقر في قلوبهم وقلوب من أعلموهم به كيانه ونعته يعمدون إلى ستره وجحده، كما قال تعالى: {{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}} [النمل:14]
{{فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}} جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم، والدعاء من الله تعالى تقدير وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء وليس غيره مطلوبا بالأدعية وهذا كقوله: {{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}} [المائدة:64] وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]
ولما كان الكتاب جائياً من عند الله إليهم، فكذبوه وستروا ما سبق لهم عرفانه، فكان ذلك استهانة بالمرسل والمرسل به. قابلهم الله بالاستهانة والطرد، وأضاف اللعنة إلى الله تعالى على سبيل المبالغة، لأن من لعنه الله تعالى هو الملعون حقيقة.
كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً [ثوابا بمعنى جزاء] عِندَ اللّهِ [هو] مَن لَّعَنَهُ اللّهُ} [المائدة:60] {وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:52] ثم إنه لم يكتف باللعنة حتى جعلها مستعلية عليهم، كأنه شيء جاءهم من أعلاهم، فجللهم بها، ثم نبه على علة اللعنة وسببها، وهي الكفر، كما قال قبل: {بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ}
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: