كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) }
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) }
{{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}} صدر الأمر الصوم بهذا النداء الذي هو من مقتضيات الإيمان؛ لأنه وجه الخطاب إلى المؤمنين؛ وأنّ تركه مخل بالإيمان {{كُتِبَ}} فرض.. وكان فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة، فابتداء نزول سورة البقرة كان في أول الهجرة، فكان صوم عاشوراء ثم فرض رمضان في العام الذي يليه، وفي "الصحيح" أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صام تسع رمضانات، فلاشك أنه صام أول رمضان في العام الثاني من الهجرة، ويكون صوم عاشوراء قد فرض عاما فقط.
وبناء {{كُتب}} للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة (القصاص والوصية والصيام)، وحذف الفاعل للعلم به، إذ هو: «الله تعالى»، لأنها مشاق صعبة على المكلف، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها حقيقة، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبني الفعل للفاعل، كما قال تعالى: {{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}} [الأنعام:54] {{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}} [المجادلة:21] وهذا من لطيف علم البيان.
أما بناء الفعل للفاعل في قوله: {{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ..}} [المائدة:45] فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين.
{{عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}} لغة الإمساك، وشرعا الامتناع عن الأكل والشرب وغشيان النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
{{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}} فالصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم، فلم يفترضها عليكم خاصة، وقيل بل هم اليهود والنصارى، وحكمة التشبيه أن الصوم عبادة شاقة، فإذا ذكر أنه كان مفروضاً على من تقدّم من الأمم سهلت هذه العبادة.
قال ابن عاشور: تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم في الكيفيات، والتشبيه يكتفي فيه ببعض وجود المشابهة، وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة، ولكن فيه أغراضا ثلاثة تضمنها التشبيه:
أحدهما: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها. وإنهاض هم المسلمين لتلق هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم.
خاصة وإن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات، ويحبون التفضيل على أهل الكتاب، وقطع تفاخر أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة، قال تعالى: {{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ}} [الأنعام:157] فلا شك أنهم يغتبطون أمر الصوم وقد كان صومهم الذي صاموه -وهو يوم عاشوراء- إنما اقتدوا فيه ليهود، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أُنف، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهمم من المسلمين إذ ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة قال تعالى: {{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} } [المطففين:26].
والغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهوينا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان، ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام، وقد أكد هذا المعنى الضمني قوله بعده: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}
والغرض الثالث: إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة.
وقال ابن عاشور أيضا: وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم وهو الشهر المسمى عندهم (تِسْرِي) يبتدئ الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر، وهو يوم كفارة الخطايا ويسمونه (كَبُّورَ) ثم إن أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى، وهي الأيام الأول من الأشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر من سنتهم تذكارا لوقائع بيت المقدس، وصوم يوم (بُورِيمْ) تذكارا لنجاتهم من غَصْبِ ملك الأعاجم (أَحْشُويُرُوشَ) فِي وَاقِعَةِ (اسْتِيرَ)، وعندهم صوم التطوع، وفي الحديث: (أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما)
أما النصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة، فكانوا يتبعون صوم اليهود وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-: "قالوا يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى" ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين يوما اقتداء بالمسيح، إذ صام أربعين يوما قبل بعثته، ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها، إلا أنهم يتوسعون في صفة الصوم، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة.
{{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}} التقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي، لأن المعاصي قسمان، قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها، لأنه يعدل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الروحاني، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية، والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية.
وفي الحديث الصحيح: (الصوم جُنة) أي وقاية، ولما ترك ذكر متعلق (جُنة) تعين حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات.
قال الراغب: للصوم فائدتان: رياضة الإنسان نفسه عن ما تدعوه إليه من الشهوات، والاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع.
وقال ابن عاشور: والغالب على أحوال الأمم في جاهليتها -وبخاصة العرب- هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة، وكل ذلك يوفر القوى الجسمانية والدموية في الأجساد، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية. وتطغيان على القوة العاقلة، فجاءت الشرائع بشرع الصيام، لأنه يفي بتهذيب تلك القوى، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها، فتكون نتيجته تعديلها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرى.
وقال أيضا: وإذ قد كان من المتعذر على الهيكل البشرى بما هو مستودع حياة حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته، فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها فكان من اللازم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان، لذلك كان الصوم من أهم مقدمات هذا الغرض، لأن فيه خصلتين عظيمتين؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية، وتعود الصبر بردها عن دواعيها، وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذرا كما علمت، حاول أساطين الحكمة النفسانية الإقلال منه، فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء، ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأديان وهو أبلغ إلى القصد وأظهر في ملكة الصبر، وبذلك يحصل للإنسان دربة على ترك شهواته، فيتأهل للتخلق بالكمال فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف عن هواه وشهواته.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: